صبري المقدسي يكتب | مريم العذراء الحواء الثانية

0

تعتقد الكنيسة من خلال دراسة كتب العهد الجديد بأن مريم العذراء الأم الحنون التي يشبهها الآباء بالحواء الثانية، قد ساهمت في ردّ الحياة الجديدة للبشرية في شخص إبنها الفادي المخلص (آدم الجديد)، وبأنها جددّت كل شىء بعد أن ساهمت أمنا الاولى حواء في إدخال الموت الى الجنس البشري بالخطيئة والعصيان.
وقد جاء في قانون الايمان المعروف بقانون نيقية سنة 325 : “من أجلنا نحن البشر ومن أجل خلاصنا نزل من السماء، وتجسد من مريم العذراء بفعل الروح القدس”. ويفسر مجمع الفاتيكاني الثاني هذه المقولة قائلا بأن: “سر الخلاص الالهي يتجلى لنا ويستمر في الكنيسة التي أقامها الرب جسدا له، وفيما يتوجب على المؤمنين المرتبطين بالمسيح الرأس المتحدين في الشركة الواحدة مع قديسيه جميعاً، أن يكرموا في الدرجة الاولى ذكر مريم المجيدة والعذراء على الدوام وإم الهنا وربنا يسوع المسيح”.
وكان رضى مريم لبشارة الملاك وقبولها لإرادة الله الخلاصية وحملها المسيح وولادته وتغذيته وتقديمه للآب في الهيكل، وتألمها مع ابنها في موته على الصليب، قد جعلها وأصطفاها الله لتكون في تصميم الله، الذي أشركها بسخاء وبإمتياز فريد على الاطلاق في عمله الخلاصي. وهي كانت أكثر علماً ومعرفة بواقع إبنها الإلهي، إذ كانت تحفظ كل ما يحدث له، وما يقوم به منذ صغره. وهي الشاهدة الوحيدة التي كانت تعلم كل شىء عنه لكونها كانت أقرب الناس اليه.
عاشت مريم مُطمئّنة فقيرة، فرحت بإبنها يسوع فرحاً عظيماً، بالرغم من علمها بكل الآلام والمعانات التي سوف يواجهها، والتي سوف تبلغ الى صميم قلبها، كما تنبأ سمعان الشيخ بعد أن قدمته مع مربيه يوسف الى الهيكل لتطهيره ولتكملة الناموس، فحمله وباركه قائلا: “يا رب، تممت الآن وعدك لي فأطلق عبدك بِسلام. عيناي رأتا الخلاص الذي هيأتَه للشُعوب كلها نورا لِهداية الأمم ومجدا لشعبِك إِسرائيل” لوقا 2 / 28 ـ 32 . وتنبأ سمعان أيضا بنفاذ سيف الآلام والاحزان في قلبها بسبب إبنها كما جاء في لوقا: “وباركهما سمعان وقال لمريم أمه هذا الطفل ا‏ختاره الله لسقوط كثير مِن النـاس وقـيام كثير منه في إِسرائيل. وهو علامة من الله يقاومونها، لتنكشف خفايا أفكارهم. وأما أنت، فسيف الأحزان سينفذ في قلبِك” لوقا 2 / 34 ـ 35. والرمح التي تنبأ عنه سمعان هو رمح الآلام والعذابات والإهانات التي سوف يواجهها يسوع في حياته، أثناء صلبه وموته. ولا يزال المسيح يواجه الآلام بسبب نكران صلبه، وبسبب الإلحاد المنتشر في العالم والكفر به؛ وكذلك بسبب الإهانات المستمرة التي توجه ضده سواء من قبل مختاريه وصراعاتهم المذهبية أو بسبب الحروب الهمجية بين البشر في كل مكان.
كان اشتراك مريم العذراء ويوسف خطيبها في حياة المسيح رمزا لإشتراك البشرية الطاهرة والصادقة في حياة الله على الأرض، إذ نرى مريم الطائعة لإرادة الله التي إنسكبت عليها نعم الله بغزارة ورجلها يوسف البار، الذي عرف بالطاعة والخضوع لإرادة الله.
كانت مريم المختارة من قبل الله والممتلئة نعمة والمصونة منذ اليوم الأول من الحبل بها من دون وصمة الخطيئة الأصلية كما تقر بذلك تعاليم الكنيسة الكاثوليكية عن عقيدة المحبول بها بلا دنس والتي أعلنها البابا (بيوس الثاني عشر) عقيدة ثابتة مع عقيدة إنتقال مريم العذراء إلى السماء بالنفس والجسد، وذلك في الخامس عشر من شهر آب من كل سنة.
وتؤكد العقيدة الكنسيّة على موت مريم العذراء الطبيعي وإنتقالها إلى السماء بعد مماتها الجسدي. وتمثل مريم العذراء البشرية جمعاء بخضوعها لبشارة الملاك كما يفسر آباء الكنيسة. والكلمة التي رددتها مريم للملاك في قولها: (نعم)، تعني الطاعة المطلقة للإرادة الربانية كما جاء في انجيل لوقا 1 / 38. وبسبب تلك الطاعة المطلقة كتب الآباء واللاهوتيون عن حب مريم الصادق لله وعن طاعتها لكلمته القدوسة. ومن أجمل التعابير التي قيلت عنها حديثا ما جاء في كتاب (يسوع في حياته) للمؤلف أديب مصلح، الجزء الاول ص 129 إذ قال: “مريم هي الزهرة الوحيدة النقية التي نبتت في تربة تفوح بروائح الفساد والتي اختار يسوع أن يتجسد في أحشائها ويصوغ جسده من دمها”. ومن هذا المنطلق قال آباء الكنيسة منذ القرن الميلادي الاول بأن إيمان مريم وقبولها للإرادة الإلهية هما السبب في حضور الله الى العالم، والسبب أيضاً في دخولنا في حياة يسوع وإشتراكنا في سر عذابه وسره الفصحي وآلامه على الصليب، وفي حمل صليبه وإتباعه والإقتداء به. فالمسيح لم يأخذ لاهوته من مريم العذراء في تجسده، ولكنه أخذ ناسوته (بشريته) من اليوم الاول الذي حبل به من الروح القدس، ولم يتم ذلك بتدخل رجل بشري، بل بتدخل الله المباشر وبقوة الروح القدس. ومن هذا يثبت أبوّة الله الحقيقية وكذلك بنوّته الحقيقية.
وتجدر الإشارة إلى أن المسيح لم يصبح إلها عبر حياته أو في يوم مماته أو في يوم قيامته، إلا أنه كلمة الله، الذي تجسد في مريم العذراء وصار بشرا، وهو كان يعلم بوضعه وسره الإلهي علم اليقين، إذ نوه الى ذلك مرارا وتكرارا. وقد شهد بذلك في مناسبات عديدة كما جاء في انجيل يوحنا 8 / 58 : “الحق الحق أقول لكم: قبل أن يكون ابراهيم، أنا كائن”. وهناك إشارات أخرى في حياته تدل على إدراكه لدوره بصفته إبن الله، مع انه كان يعرف الله أباه الحقيقي، إلا أنه لم يرفض الأبوين الأرضيين، بل أطاعهما، وأعطى لنا مثالا على ذلك من خلال حياته اليومية. وكان أبواه يعرفان عنه بأنه طفل متميّز عن باقي الأطفال ومن دون أن يعلما تفاصيل رسالته وما يدور في ذهنه. ومن دون أن يعرفا حقيقة أن إبنهما يسوع، قد جاء الى العالم كي يكشف سر الله الخاص (الآب والابن والروح القدس) وبأنه موجود منذ البدء مع الله الآب، ومساوي له في الجوهر، الذي رأيناه وسمعناه بعيوننا ولمسته أيدينا وهو اله حق من إله حق، تجسّد في مريم العذراء وأخذ جسما بشريا وسمي يسوع، بحسب ما أمر به يوسف مربيه من قبل الرب. وهذ يعني أنه لم يكن ليسوع الانسان وجود قبل الحبل به في مريم، ولكنه كان له وجود كإبن لله. ولم يكن للتلاميذ والمسيحيين الاوائل علم بواقعه الحقيقي الا تدريجيا ومن خلال خبرة إيمانية عاشوها أثناء التبشير به في العالم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.