صفوت فوزي يكتب | طائر في الملكوت

0

طريقٌ طويلٌ وشاقٌّ قطعناه سويًّا. يرفعُنا مرةً إلى ذرى الأمل والتفاؤل، ويُلقي بنا مرَّاتٍ على جذور رقابِنا في وهادِ اليأس والخذلان. جرحٌ مفتوحٌ لا يندَمِل. ما يفتأ ينزُّ ألمًا وحسرةً وخيبةَ أملٍ. فوَّهةٌ نَهِمةٌ مفتوحةٌ نلقمها حبات قلبَيْنا فتمدَّ ألسنتَها التي لا تشبعُ طالبةً المزيدَ.
لم تفلح جهودها في الرُّقيا وفى إطلاقِ البَخورِ في أرجاءِ البيتِ، ولا في ثَقبِ العروسِ الورقيَّةِ بعشراتِ الثقوبِ في عينِ كلِّ حاقدٍ أو حاقدةٍ، حاسدٍ أو حاسدةٍ، فانطوَتْ على أحزانِها وآلامِها الباذخةِ.
السماءُ مضيئةٌ بلونٍ أبيض يميلُ للزرقةِ. البلدةُ هاجعةٌ تحلمُ. أشجارُ الكافور والنخيل ملفعةٌ بغلالةٍ زرقاءَ ورديةٍ. الصمتُ عميقٌ. لا يُسمَع حتى صياح الديكة، ونحن نغذ السيرَ في الحواري والأزقَّة المتعرجة الضيقة يلفُّنا الصمت. فوق سطحِ أحد البيوتِ الخَرِبةِ تقف بومةٌ. فاجأَهَا الضوءُ الوليدُ فجفلتْ وتملَّكَها الفزعُ وطارتْ مبتعدةً. كانت العصافيرُ التي استيقظتْ لتوِّها تشدو بأولِ ألحانِ الصباحِ. من أحدِ الأبوابِ المواربةِ يتسلَّلُ ضوءٌ باهتٌ ضعيفٌ من مصباحٍ تُرك مضاءً، ومن داخل إحدى الدورِ ثمَّة حركةٌ هينةٌ وصوتٌ رتيبٌ لقطراتِ ماءٍ تتساقطُ قطرةً قطرةً. من بعيد، تبدو الحقولُ مترعةً بالخضرةِ الزاهيةِ، وفى السماءِ، يخايِلُني وجهُ اللهِ بين السحابِ. حطَّتْ يمامتان على إفريزِ نافذةٍ قريبةٍ، تميلُ إحداهما على الأخرى، تتناجيان. اجتاحها الحنينُ. تلبَّد بجواري كطفلٍ خائفٍ. آخُذُها في حضني، آخِذًا بيدِها، أربتُ على ظهرِها، ماسحًا على شعرِها الفاحمِ ينامُ على كتفَيْها في تحنان، قائلًا: بُكرة تُفرج. قلتُها ولذتُ بالصمتِ.
نهبط، عبر درجاتٍ حجريةٍ عتيقةٍ منحوتةٍ عبرَتْها آلافُ الأرجُل، نتطلعُ إلى الجدرانِ العتيقةِ للمزارِ الذي يضوي بضوءِ الشموعِ الشَّحيحِ. همساتٌ وابتهالاتٌ خافتةٌ صاعدةٌ من قلوبٍ أضناها الألمُ والمشقَّةُ في رواقِ كنيسةِ الأمِّ العذراء، وامرأتي تبثُّها شوقَها للضَّنى والخلفة، وصرخةِ الوليد الأولى. تهمسُ بحرقةِ البكاءِ: يا ست يا طاهرة، يا أم النور، انزعي عاري بين النساء، وهبيني طفلًا تقرُّ به عيناي!
**
وكنتُ أسمع من أمي، ربَّةِ الدار، قدَّسَ اللهُ روحَها، حكاياتِ المربوطين بسحرِ سكَّانِ الأرضِ السفليَّةِ، القابعينَ في سابعِ أرضٍ، المُولَعين بأذيَّة بني آدم، وأولئك الذين يكتبونَ العملَ على ظهورِ القراميط السوداء، يُطلِقونها في المياه الجاريةِ، وقيعانِ الأنهارِ ويدفنونَ الأعمالَ في عطنِ الجبَّاناتِ القديمةِ. تظلُّ أحاديثُها في الذاكرةِ كطقسٍ مقدسٍ، وهي تطوِّقُ عنقي بالخرزةِ الزرقاء، وتعملُ لي التمائمَ والأحجبةَ المكتوبةَ بحروفٍ غريبةٍ غارقةٍ في طلاسِمها، منقوشةٍ بنجومٍ وإشاراتٍ وأهلَّةٍ مقلوبةٍ ، تغلِّفُها بقماشٍ يلمَعُ بالوسخِ وتعلِّقُها في كَتِفي مصحوبة بهمهمات تعلو وتنخفض وطلاسم ترسمها بسبابتها فى الهواء . تخرم لى عملة معدنية قديمة تشبكها فى جدائل شعرى . وكانت تقولُ لي وعيناها تفيضانِ بالحنانِ: الحجاب حافظ من العين اللي فلقت الحجر. وكنت أقفُ بدهشتي وصغرِ سنِّي أحاولُ الفهمَ. يتكاثفُ خوفي، وأتطلَّع إليها مدهوشًا صامتًا. تحكي لي عن القِطَطِ السارحةِ في أنصاف الليالي التي تحمل أرواحَ مَن ماتوا وتدورُ بها في الليلِ والظلامِ. تقول لي ناصحةً: إياك أن تضرب قطة سوداء في الليل فهي روح هائمة. وأعتَصِرُ ذهني جاهدًا في تذكُّر إذا ما كنتُ قد ضربتُ قطةً سوداءَ في الليلِ فحلَّت عليَّ اللعنةُ. أجتازُ خائفًا الممراتِ المظلِمةَ والحاراتِ الضيقةَ، وهمهماتِ الأصواتِ الغامضة التي ترفرفُ في ظلامِ الأقبيةِ والزوايا. الأزقةُ الصاعدةُ إلى المزارِ، والنازلةُ منه، تلتوي وتضيق، بين جدران عاليةٍ من الطوبِ القديمِ الذي ينشعُ بالرطوبةِ، وأنا أبحثُ عن إجاباتٍ لمئاتٍ منْ علاماتِ الاستفهامِ التي تملأُ رأسي وتزحمُ عقلي. أقفُ خاشعًا مؤملًا في المزارِ البعيدِ، غارسًا الشمعَ المُوقَدَ في مستطيلِ الرملِ أمام صورةِ البطلِ العتيقةِ، صائحًا بكلِّ عطشِ السنين القابعِ في أعماقي: يا مار جرجس، يا سريع الندهة!
نعود من الدَّوران في الشوارعِ والحاراتِ وقد أنهَكَنا البحثُ عن أملٍ ضَنينٍ يفرُّ من بين أيدينا كلَّما حاولنا الإمساكَ به. نتطلَّع إلى سماءٍ أوشَك قمرُها على المحاقِ، نجومُها حزينةٌ متباعدةٌ صامتةٌ.
**
انتظرناه طويلًا. انتظرناه وأعدَدْنا له المهدَ والألعابَ وعرائسَ القماشِ، الحفاضات، شموع السبوع التي سيحمِلُها أطفالُ العائلةِ والجيران، الغربال المطرز بالدانتيلا. جدَّته أم الخير أهدتنا كيسًا مملوءًا بالحبوب السبع، حبوب الخير والبركة، وحفنة من دعواتٍ مبارَكةٍ.
**
حينَ أخبرتني زوجتي بحملِها للمرةِ الأولى، كان صوتُها سيَّالًا بالحنانِ والرقةِ والرِّضَا. عادتِ الصبيةُ ذات الجدائلِ السود، والوجهِ الباسمِ المُدوَّر. عيناها خيوطٌ من حنين ومحبة الرفقةِ والونس. قفزتِ الطفلةُ الساكنةُ في أعماقِها السحيقةِ فجأةً. غيَّبَتْنِي في دسامةِ صدرِها تَضغَطُني في شوقٍ وألفةٍ، فيما تحوَّلَ نهدُها إلى كرةٍ طريةٍ من النارِ تحتَ أضلُعي. تصيح بصوتٍ مرتعشٍ وفي حنانٍ يُكسِبُ كلماتِها حبًّا مقطَّرًا وهي تتقافزُ فَرِحةً: الحمد لله، الحمد لله. كانت مصاريعُ النافذةِ تصطفقُ في فرحٍ، وفي الفضاءِ الواسعِ غرَّدت طيورٌ. أفعمت أنفي رائحتُها، وتنشقت من جسدها رائحةُ ماء الورد. انغرز في دفء اللحم الحيّ. تتفتَّحُ أمامي مخادعُ اللذة. أجوس في غيط جسدها الريان. تسرح يدي الخشنة الحنون في نعومة أعطافها. أتحسسُ مواضِعَها فتخفق في السماء نجوم، وتهب على الكون روائحُ رضا.
**
طريقٌ ترابيٌّ طويلٌ تحفُّه أشجار الكافور والتوت مخترقًا الحقولَ يفضي إلى المقابر، نقطعه مترجلين وزوجي يحمل على يديه طفلنا الذي انتظرناه طويلًا. جاء إلى الحياة ميتًا. كنت وحيدةً بدرجةٍ مؤسية وأنا أخطو على تراب الطريق تسبقُني شمسُ المغارب. على اليسار وعلى مدد الشوف تنتشر الغيطان بخضرتِها الزاهيةِ. الشمس تغمرُ المدى بالضياء، وشجرُ الصفصافِ يقف ساكنًا لا يريم. صمتٌ مفعمٌ يلفُّ المكانَ، لا يُسمَع سوى وشيش الريح في الشجر، وصوت خرير الماء في المساقي البعيدة. حلَّقت طيورٌ راحلةٌ، وسمعت ضرب أجنحتها، وصوت غنائها. على اليمين فرن الفخراني المتَّقد دائمًا بنارٍ لافحةٍ مكتومةٍ. تمتدُّ أمامها ساحةٌ ترابيةٌ واسعةٌ رُصَّت عليها أكوامٌ وصفوفٌ من القُلَلِ والأباريق والزلع والبلاليص والقصارى والطواجن ومناقد الفحم، صغيرةً وكبيرةً، وأشكالها متعددةٌ. الفخاريُّ، ببَدَنِه النحيلِ، الطويلِ، وبشرتِه السمراءَ التي دبَغَتْها الشمسُ، غارقٌ في طينِه وترابِه، يجلسُ أمام دولابه يشكلُ الطينَ في أشكالٍ متعددةٍ ومختلفةٍ. كأنني غفوت، أخذني الوسن وراح بعيدًا، أم أنني كنتُ أرى بعينين مفتوحتَين وأنا أستندُ برأسي المتعب إلى ساقِ توتةٍ قديمةٍ تصغى إلى أنين ساقية. ما أدهشَني أنني كنت أراهم يخرجون من بين يديه، من دولابه، في ملابس بيضاء كالملائكة. أسمع ضحكاتِهم وزقزقاتِهم كعصافير خضراء لها زغب، ما تلبث أن ترفرف بأجنحة من نور صاعدةٍ للأعالي. كنت أحاول، بما أحمل من مشاعر الفقد، البحث عن وجهه الذي لم آلفْه بعد بين وجوههم الضاحكة المنيرة. أتأمَّلُهم وجهًا وجهًا بشغفِ الفراق، وكأنني أحاول دفع الموت الفاجع الذي فاجأني، لكنني لم أعثر عليه أبدًا. أتكأ على ألمي وأنا أدرج على الطريق متعثرةً في خطاي وراء جسدِه الصغير المسجى على يدَيْ أبيهِ والمقمَّط في ملابسَ بيضاء، يأتيني صوتُ العديد مخترقًا قلبي بحزن أليف يستقرُّ في القلب مثل شريان الدم.
**
عادت بعد أن وارت وحيدَها التراب. كانت صامتةً، مزمومة الشفَتَين، تنظر إلى الأفق البعيد حيث البراح على الأرض البور المتوحدة، تتأمل ما حولها غير مصدِّقة، شَبَحٌ يطلُّ من ذاكرة قديمة. لم يكن هناك فرنٌ ولا موقدٌ ولا فخراني. اختفت تلال الجرار القديمة. اختفى كلُّ شيء وكأنه لم يكن موجودًا بالمرَّة. فقط هو البراحُ، والأرضُ البور. ومن بعيدٍ، يصدحُ طائرُ الليلِ الراحل، معلَّقًا بين السماءِ والأرضِ بصوتِ التسابيحِ: المُلْك لك لك لك … المُلْك لك لك لك.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.