صلاح زنكنه يكتب | العولمة وأفق الثقافة

0

العولمة ليست بدعة طارئة ولا نظرية طوباوية, إنمـا هـي خطاب فكري اقتصادي اجتماعي، تمخضت عـن مقولـة “النظام العالمي الجديد” كمشروع استراتيجي تبنتها أمريكيا, أثر انـهيار المعسـكر الاشتراكي وتفكك الاتحاد السوفيتي وانكفائه، ممـا أعطـى مسوغا ومبرراً وزخماً للولايات المتحدة الأمريكية, للتحكـم والتفرد بزمام الأمور والمجريات المستجدة في العالم علـى جميع الصعد كقطب واحد أوحد، عبر وســائل وقنـوات عديـدة ومتنوعة ومنها الخيار العسكري كآلية ذات فعالية حاسـمة في مواجهة بعض المنظمات (الإرهابية) وإنهاء بعض الدكتاتوريــات “أفغانستان، العراق” انطلاقاً من الخطاب الليـبرالي الـذي عدته أميركا وصفة حضارية, وتبنته كصيغة سياسية تلائم روح العصر وفق نظرية “نهاية التأريخ” كما ذهب “يوكوهاما” في كتابه بذات العنوان.

تستند العولمة كمفــهوم اقتصـادي تجـاري علـى الشـركات الرأسمالية الكبرى متعددة الجنسية والعابرة للقارات للتنقـل والاستثمار بحرية وشفافية في كـل بقـاع العالم, حسب أهميـة الموارد والأسواق وفق قانون العرض والطلب، وبالتالي ينشـأ عن ذلك وجراؤه قيما وأخلاقيات وثقافة مغـايرة, توصـف بالطابع الكمالي الاستهلاكي المنفتح، تبدو للوهلـة الأولـى غريبة على عادات وتقاليد الشعوب المحافظة، بل وتشـكل خطراً وتهديدا مباشرين على المؤسسات الأصولية التقليدية الثلاث، وأعني الدولة، والدين، والقومية, كما يؤكد محمد عابد الجابري.

يقينا أن الشعوب الضعيفة المتقوقعة الخائفة، وحدها تخشى وترتعد من كل ما هو جديد ومبدع ومغاير، بينما الشعوب الحية القوية بإرثها الحضاري الرصين تتفاعل مع مثيلاتـها بما تبدعه وتؤسسه من أفكار ومعارف وثقافات تصب فـي مجرى تقدم البشرية ورفاهيتها.

أجل، العولمة ليست غولا أو بعبعاً كما يتوهم الأصوليـون، فهي تسعى جاهدة لجعل العالم الكبير أشبه بقريـة كونيـة, عبر شبكة الاتصالات والمنظومـات ذات التقنية الفائقة، فالعولمة حسب رأيي الشـخصي هـي المعادل الموضوعي للأممية التي تبنته الفكـر الاشـتراكي والاثنتان اعتمدتا المبدأ الاقتصادي في طروحاتهما الفكرية، لكنهما اختلفتا من حيث الوجهة والغاية, فإذا كانت الأمميـة ذات طابع إنساني تؤكد خصوصية ثقافـة الشـعوب، فـأن العولمة ذات طابع غربي أمريكي (أمركة) تؤكد شمولية ثقافة الفرد – الإنسان, كسلوك حضاري, وبالتـالي أن الثقافـة التي تتكون وتتشكل في عصر العولمة, هي ليسـت ثقافـة مشوهة أو مسخا أمريكيا كما يدعي بعضهم، بل هي ثقافـة الحرية والانفتاح بعيداً عن كل العقـائد والأيديولوجيـات والأصوليات والتابوهات، لأن الثقافة في نهاية المطاف, هـي عصارة العقل البشري والضمير الجمعي للشعوب.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.