طارق الخولي يكتب | عن فلسفة رسالة الإمام .. قَوام الرسالة

0

كُنّا نُطالب بفنٍ ثَري ذا قيمة، يُساهم في إعداد جيل له مبادئ وقضية، مُحددها الرئيسي “الوعي”، حتي نعي جيدًا ما يُمكن أن يُحاك لنا، دائمًا نردد أن جميع البيوت المصرية تطُل على نافذة ضخمة تُعرف بشاشة التلفاز، لذلك إن أردت بناء أو هدم مجتمع، فما عليك سوي نشر أفكارك من خلاله، حتي يشاهده الجميع ويتجرع منه أفكارك بل وتستخدمه ليكون بمثابة أداة مساعدة لنشر ذلك المحتوي. نقول أن مصر هي أُم الفن، لكن كان من المفاجئ أن نشاهد حجم إسفاف وابتذال غير مسبوق في الأعمال الدرامية خلال الأعوام السابقة؛ وهو ما وَلد لينا رغبة في رؤية تغيير حقيقي، رؤية فن يحمل رسالة، حتي هَلت علينا “رسالة الإمام”.
رسالة الإمام هو عمل له ثِقل درامي، مُختلف في المضمون، هام في التوقيت، كدنا نفتقد تلك النوعية من الأعمال التي تُعظم وتُمجد في أصول الإسلام والفقه الصحيح: ولعل بلاغة تلك العمل تكمُن في فلسفته القائمة على (المُكاشفة – تجديد الخطاب الديني – حُسن التصرف).. فهو عمل فيه تحرير للفكر، تدبُر للفقه وإحكامٌ للعقل.. نحن نتحدث عن واحدٍ من أعظم العلماء في التاريخ الإسلامي، والتي خطت قدماه أرض مصر لسنوات يفيض فيها علمًا ونورًا وبهاءًا؛ فهو من أسس علم أصول الفقه وجمع في بناءها على نقطتين وهما الحديث والرأي؛ ولعل تلك النقاط هي أهم معالم منهج الشافعي الذي يعتمد فيها علي الاعتدال والوسطية.
يأتي مُسلسل رسالة الإمام، بعد حقبة كادت أن تودي بنا إلى الهاوية، خرج علينا من كل مكان أصواتٍ جَهورية لا تعرف الوسطية بل لا تعرف الإسلام بمعناه الحقيقي، شَرعوا لأنفسهم الإفتاء وهم غير أهلٍ لذلك، تلاعبوا بالدين من أجل أهوائهم، اتخذوا من التشدد مذهبًا يقتُل كل من يخالفه.. بِتَّ أقول، نحن الدولة التي تشعُ للعالم أعظم رسائل الإسلام السمحة من صرح الأزهر الشريف، فكيف يحكم أفكارنا من بعثروا كُتبًا تتخذ من التكفير والإرهاب مرجعًا، ومن استباحة الدماء معلمًا في طريقهم.
لذلك؛ كان لزامًا أن يخرج من رحم الفن عملٍ يُجسد ويُعبر عن صحيح الدين، يحمل في طياته مُعالجة فكرية وردود فقهيه علي قضايا معاصرة، فعلي سبيل المثال لا الحصر، كانت هناك حلقة تناولت حديث بين رجل والشافعي به التالي: “هل للمرأة أن تتصرف في مالها الخاص دون الرجوع إلي زوجها فيجيبه: نعم بالطبع مادامت رشيدة اكتسبت حق التصرف في مالها مثلها مثل الرجال. وفي تلك الرسالة، نستحضر الواقع، فقضية تصرف المرأة في أموالها”، رد فقهي واضح علي قضية متداولة حتي الآن، اعتمد في حلها علي مبدأ الاعتدال كوسيلة لحل كل قضية قائمة. كما أنه تم التطرق إلى قضايا فكرية مثل الإرهاب والتلاعب بالدين وكانت تُعتبر بمثابة “مُكاشفة” لكل المحاولات الفجة التي عاصرنها خلال السنوات الماضية. كءلك، فإن مسلسل الإمام عرض أهمية قضية اعتماد خطاب ديني مُغاير لكل معاني التشدد والثشبث بالرأي، فوجدنا لديه من الوسطية منوالًا في اعتماد معاملته مع الناس وفي تولي أمور دينه؛ لذلك فهو مُجدد بكل ما تحمله الكلمة من معني.
“لَقَد أَصبَحَت نَفسي تَتوقُ إِلى مِصر، وَمِن دونِها أَرضُ المَهامَةِ وَالقَفر”..استوقفتني تلك الأبيات الشعرية التي تحدث فيها الإمام الشافعي عن مصر، مَدي تأثره بالمعيشة بها، خاصة أن مصر هي من أظهرت أن الإمام الشافعي يَتحلي بقدرٍ عالٍ من المرونة وحُسن التصرف، ويتضح ذلك جليًا من خلال إن الإمام قد كتب أمور مذهبه ودَونّها في العراق، وعند الانتقال إلى مصر أعاد النظر في بعض المسائل وعَدل منها؛ إذ أن كل بيئة مُحيطة لها أحكام وظروف مختلفة عن غيرها؛ لذلك لجأ الشافعي إلى التعديل حتي تُناسب كل مكان. أيضًا، فإن المسلسل حَمل لفتةٍ تاريخية عن حقبة العصر العباسي وما شهدته من خلافات علي السلطة؛ وألقت تلك الأزمة بظلالها علي تشكيل المجتمع المصري آنذاك.
نجحت الشركة المتحدة في خَلق عمل درامي مُتكامل الأركان، أعاد أذهاننا لأجيال عمالقة الفن المصري الذين قدموا أعمال دينية وتاريخية خالدة؛ وبذلك أرست الدور الحقيقي للقوة الناعمة، وقدمت اتجاهًا مُغايرًا لأفكار هددت قيم مجتمعنا، وأعادت زهوة تاريخ الفن المصري.. وهو أمرٍ لو تعلمون عظيم!

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.