عباس عبيد يكتب | هل يمكننا جعل التعليم ممتعا (2-2)

0

اليومَ، يتقدم مصطلح التلعيب/ اللوعبة/ اللعبنة (Gamification) الذي دخل إلى المعجم الإنجليزي مع بداية القرن الحادي والعشرين ليمثل الخيار الأفضل من بين طرق التعليم. فالتلعيب يستعير من اللعبة بعضاً من عناصرها “التحدي، النقاط أو المستوى، المكافأة” ليحرر المحتوى التعليمي من الرتابة، ويزيد من تفاعل الطلبة مع ما يُقدم لهم. إنه فرصة مثالية لتعزيز روح المشاركة والتعاون، وتحفيز القدرات، بما ينمي الرغبة لا في التعلم فحسب، وإنما في التفوق أيضاً. تلك اللمسة الساحرة تتجاوز الدرس التقليدي، مستندة لكم هائل من الإمكانات التي أتاحتها تكنولوجيا الوسائط الذكية، وأثراها الفضاء الرحب لعالم الإنترنت. يكفي أن نتذكر آلاف الألعاب التي يمكن توظيفها في هذا السياق، وهي متوفرة بشكل مجاني. فضلاً عن ألوف الروابط والفيديوهات، والملفات الصوتية، والصور الثابتة والمتحركة. أقول ذلك، بعد أسبوع واحد من بدء العام الدراسي الجديد، في الوقت الذي بدأ فيه أكثر المعلمين يغلقون صفوفهم الإلكترونية، ومعها كل سبل الإفادة من تلك الإمكانات المجانية المفيدة. ما إن تراجع وباء كورونا حتى فضلوا العودة لطريقة التلقين المباشر. وهو ما كنت قد توقعت حصوله، وحذرت من تبعاته في مقال سابق نشر قبل عامين. بينما تفكر الدول المتقدمة باستثمار الشوارع والمتنزهات، ومجمل الفضاء العام لتنمية سلوك الأطفال، عبر محفزات تعليمية مثيرة وغير مكلفة، لا شك في أنها ستسهم بتأسيس اللبنة الأولى لوعي مستقبلي أصيل.
عالم بطراز خاص
حياة طلبة المدارس الصغار حياة مدهشة حقاً. لن يكون بمقدور أحد أن يفهمها ما لم يسترجع روح الطفل الذي يسكنه، براءته وطيبته، قلقه ومخاوفه، رغباته الساذجة، وخياله غير المُدجَّن بعد. إنها فضاء خاص، له مصطلحات ومرويات وشائعات تهم الأطفال وحدهم، وتستجيب لطبيعة اهتماماتهم. وليس بالضرورة أن تكون لمروياتهم وثائق إثبات صحيحة، حين ينسبونها لشخصية ما. يكفي أن يجدوا فيها شيئاً من أنفسهم.
لقد تأكدت من ذلك، حين صرت في مرحلة الدراسة الإعدادية، وبدأت أقرأ نمطاً مختلفاً من الكتب. وكم كانت المفاجأة كبيرة حين اكتشفت أن ذلك الذي فضل ميادين المعارك على قاعة الامتحان لا يبدو هو الأصلح لنسبة الجملة التي أغرت بسحرها زملاء الدراسة، إلا لجهة كثرة الحروب التي تسبب بها. لقد كان نابليون تلميذاً ذكياً متفوقاً، وبفضل ولادته لأسرة أرستقراطية واسعة الثراء، ذات أصول كورسيكية إيطالية، درس وتخرج في أفضل معاهد التعليم بلا مشاكل.
حتى سيرة زعيم النازية نفسه لا تكاد تتفق مع حكاية الحروب الامتحانية، فتعثره الدراسي كانت له أسباب لا تعود إليه بالأساس، بل إلى كم القسوة المفرطة، وحجم العقاب العنيف الذي استمر يتلقاه من زوج والدته، أيام كان تلميذاً صغيراً. ومن يدري؟ فربما كان التاريخ سيأخذ مساراً مختلفاً لو أن ذلك الفتى الألماني ذا الأصول النمساوية، المعجب كثيراً بفن الرسم قد تهيأت له فرصة القبول في المعهد الفني الذي طمح لإكمال دراسته فيه، فالمهتمون بتتبع مسار حياته أكدوا أنه استمر يمارس هوايته الفنية بشغف، حتى وهو محشور في الخنادق الجهنمية للحرب العالمية الأولى.
نعم. يمكننا أن نجعل التعليم ممتعاً، حين نكسب ثقة المتعلمين، وحين نعزز الثقة في أنفسهم فلا تنتابهم المخاوف لا من الامتحان ولا من غيره. لحظتها أيضاً، لن يتوقفوا طويلاً عند أقوال “الإمبراطور” أو “الفوهرر”، سيفضلون أن يأخذوا في اعتبارهم مثال “المهاتما”، فهو أكثر نفعاً في إزجاء الصالح من جمل الحكمة، الحكمة الإيجابية التي تعزز الأمل في نفوس سامعيها، وتبشر العالم بمزيد من الطمأنينة والسلام، لا بحروب الخراب والكراهية. ولا شك عندي في أن “غاندي” قد وصل إلى أوج تجلّيه حين قال: “الفرق بين ما نفعله وما نحن قادرون على فعله يكفي لحلِّ جميع مشاكل العالم”.

* عباس عبيد، كاتب من العراق.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.