عباس علي العلي يكتب | سورة يوسف .. جمالية الأداء وعلمية الطرح (٢-٤)

0

الجميل والفريد في الطراز من السرد هو حرصه على الجمع بين التفاصيل الصغيرة وبين إطار الكبريات التي تؤسس للمعنى، فلم يهمل النص مثلا تحديد شكل المكان ولا طريقة الأداء ولا إلى ما يشير فيه لسلسلة من الأحداث التي تتابع في المشهد، وربط هذا كله بالغاية التي يريدها ان تصل (وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ) و (أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّينًا) وأيضا (ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ)، هذه المفردات التفصيلية تقدم لوحة بانوراميه متعددة الوظائف والزوايا في الرؤية المتكاملة من جميع جوانبها، وبفنون الدقة والجمال في البناء توحي للقارئ أنه أمام عناصر تشويق أخاذة تسلبه من الواقع ليعيش عصر الأحداث وكأنه جزء من الحدث، هذا التشويق قد لا تتناسب مع نص يمتاز بالجدية والقداسة والإحكام عند البعض الذين يرون في النص الديني مجرد عصا من أدوات القمع التي يستخدمه الله مع الإنسان، لكن الذين لا يعرفوا منهج السرد في كتاب الله لا يفهمون من أن القرآن الكريم يتعامل مع عقول يراد لها التفاعل والإنتاج، وليس فقط تعبئة القصة ثم تحويلها إلى مفردات عباديه .
الميزة الإبداعية في النص هنا قدرته على حمل الكثير من المعاني والدلالات بالقليل والجميل من الهيكل البنائي للنص دون إطناب أو حتى ما هو طبيعي في السرد الأدبي، يختصر النص مثلا قصة أخرى تجري داخل القصة الأم ويربطها بسلسلة الدلالات من خلال بعض الكلمات، ليكون ما يسمى الصورة المجمعة وعبر مهارة فائقة لا يمكن أن نتلمسها في بنائيات لغوية أخرى مشابهة، لاحظ القصة الفرعية في نسيج القصة الأصل حينما (وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ)، دلالاتها واسعة لتعطي حدث أخر كبير أيضا ولكن بكم قليل من المفردات، نعم مارس الناص التكثيف بأعلى درجة فهي مضغوطة هذه القصة للحد الذي لا يفقدها الربط الكامل لمضمونها مع مضمون السياق السردي العام، وسنرى من خلالها كيف لخصت محمل الحدث الذي أسس فيما بعد لأصل القصة، إنها مهارة تعميق النصر والرؤية من خلال العمق لنرى أيضا عمق الدلالات التي ستتلاحق نتيجة هذه القصة بالذات، حتى نصل المفصلية التي ستكون المحور الأهم بالقصة لاحقا كنتيجة للقصة المقدمة (وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ) … هذا الترابط بين الأحداث بهذا الاختصار الفني ومن ضمن حبكة درامية قليلا ما نجدها تتوفر في نصوص أدبية مقاربة لها تأريخا وحتى أيضا الكثير من النصوص التي يعتقد أنها دينية.
نعود إلى النسقية السردية التي سخرها النص لخدمة الهدف وصاغها بجمالية تساعد القارئ على الاندماج والتفاعل من خلال صيغة الجملة ذاتها، فهو أعتمد الرمز ليبوح بالحقيقة وبنفس الوقت هناك جمل تبوح بالسر والحقيقة ولكنها تقصد الرمزية المتناغمة مع خلط الغيب بالحاضر والحاضر بالمستقبل، لنتأمل هذه النصوص الجميلة (إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ)، الرؤية هنا حقيقية وليست حلما وإلا لكان النص صرح أن يوسف كان في منام، بل مؤكد الدلالة على أن يوسف وأبيه على خط واحد من الفهم بمعنى الرؤيا المشاهدة الواقع المرموز بحكايات لن تلد بعد، هذه الجمالية بالتفريق بين عالم الأحلام التي لا تعدو أن تكون أضغاث وبين الرؤية التي هي خروج من عالم الزمن الآن إلى عالم الزمن الحقيقة، في حالة عبور للواقع المحدد بالزمان والمكان والذي صرح به يوسف لأبيه عبور الرؤيا الإيحائية المنبه للمستقبل على أنه قدر وتهيئة وإعداد لأمر لاحق.
في موضع جمالي أخر تأمل معي أيضا نصا زاهيا بالفن القصصي المترف بتناغم بين رقة الإحساس وعنف الحدث أخر (وَاسْتَبَقَا الْبَابَ)، تعبير في غاية الدقة في تحديد مسار الحدث أستبقا ولم يقل سارع فالموضوع ليس منه وحده فقط بل من الطرفين يحاول كل منهم أن يسلف الأخر، وكأن هناك حالة من اللا متوقع من يوسف فسارع مسابقا سيدة القصر التي همت به، وتحديد عن أنتهاء المسابقة التي حدودها باب المكان حدث اللا متوقع (وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ)، هذا اللا متوقع أنها أستعملت العنف بعد فشل ما نوت عليه من رغبة جامحة، لتتفاجأ هي وليس يوسف بأمر أخر وإن كان الحدث مر صعبا على الأثنين (وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ)، هنا النص جاء بالواقع ليرمز للحقيقة التي ستنكشف لاحقا من خلال كيفية القد، النص ثري جدا ولكنه في حروف معدودة يجعل القارئ في سياحة حقيقة في جنة الجمال البلاغي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.