عباس علي العلي يكتب | سورة يوسف .. جمالية الأداء وعلمية الطرح (٤-٤)

0

من المسارات العملية والأفكار التي تؤسس لأول مرة في مجتمع غارق في ثقافة الخاصة القائمة على مبدأ المجموعية بدل عن المسئولية الفردية الشائعة في مجتمع القبيلة والبداوة، تطل علينا السورة بنصها القانوني الجديد الذي لا بد أن يكون منذ نزوله أو قراءته لأول مرة عماد للنظرية القانونية الجزائية، وإن كانت هناك إشارة سابقة لهذا المبدأ منها “ولا تزر وازرة وزر أخرى” وأيضا مبدأ “كل نفس بما كسبت رهين”، لكن النص الوارد هنا نص يختص بالقانون الجزائي حصرا (قَالُواْ جَزَاؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)، مبدأ الجزاء إذا ليس ما تتحمله المجموعة أو العشيرة بقدر ما يمثل في الدين والواقع مسئولية الجاني خصوصا إذا كان حرا ومختارا في عمله، غير هذا طرحت فكرة النص ومن سياق القصة أن الظاهر الخارجية ليست بالضرورة هي الحقيقة كما نراها أو تطرح نفسها حتى لو قام الدليل العقلي عليها بقوة، فما حصل من أكتشاف المسروق في رحل أخيهم ظاهر ثابت ووفقا للقانون والأدلة المتحصلة، لكن النص يخبرنا ما يشبه الحقيقة ولكنها لا تنتمي لها أبدا (فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ).
إن المتمعن بالدلالات الخاصة والفرعية التي يمكن قراءتها ضمنيا في النص القرآني هذا يلاحظ الكثير من الأفكار الإيجابية منها الإرشادية مثلا كقوله (يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ)، وغيرها الكثير مما تحفل به السرديات من عبر وحكم تشكل ملاذا أمنا وطيبا لمن يطلب الحكمة من مضانها ومنابعها الأصلية، ولكن مع كثرة ما يرد في السورة من عمليات إعادة لصياغة الوعي المثالي السليم والإيجابي، يحاول النص أيضا أن يبني ثقة الإنسان بعقله، وقدرته على تجسيد حلم العدالة والسير في طريق وجودي معبد (فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ)، هذه الثقة بالنفس والصدق معها لم يأتي من فراغ وام ينهزم مع كل ما يلاقي المرء في حياته من إخفاقات وعوامل سلبية قد تضعه على طريق اليأس والخيبة.
في نهاية المبحث هنا لا ننسى حقيقة واحدة هي أن الجمال السردي المختصر مع كثرة الأفكار والمواضيع المطروحة فيها، لم يشكل تقزيما للقضية الأصلية التي ركزت عليها النصوص، وهي قضية البناء الأسطوري اللا متوقع لإرادة الله في تسيير الأشياء والتخطيط لها، لم يستخدم الله أو الناص في السورة أو في الواقع المعجز الغيبي، ولم يحاول أن يجعل من أبطالها خارقين بقدر ما منح الحرية للعقل عند هؤلاء ليكونوا متوافقين مع ذواتهم المعرفية، ويصنعوا الحدث بعقلانية ومنطقية لا تخدش النظام الشمولي الكوني القائم على الأسباب والعلل، وهذه قضية مركزية مهمة واجهت الفكر الديني عموما عندما لا نفهم حقيقة الحدث، ونظن أن الله ربما لسبب ما يستعيض بالمعجز بدل المنطق الحدوثي وقانون السبب والعلة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.