عبدالله عيسى الشريف يكتب | أولويات وتحديات السياسة الأمريكية

0

يشهد النظام العالمي في الوقت الراهن حالة من عدم اليقين؛ نظراً للذوبان المستمر في الحدود الفاصلة بين القطبية الأحادية والقطبية الثنائية، بكل ما يحمله ذلك من تداعيات على بنية النظام العالمي وتحولات أدوار القوى الدولية الفاعلة فيه، مع استمرار ميكانيزمات التغير والتكيف في بنية ووظيفة وحدات المجتمع الدولى، فالنظام العالمى الذي تأسس بعد الحرب العالمية الثانية، وارتكز على فكرة “توازن القوى”، حينما رأى كلا المعسكرين الشرقى/ والغربى أن ما يُسمى بـ “الدمار الشامل المتبادل” هو محور استقرار النظام الدولى، وضمانته لعدم اندلاع حرب عالمية جديد، وأعطوه مهمة “حفظ السلم والأمن الدوليين”، لم تؤت ثمارها مع بدايات القرن الحادى والعشرين في ظل الهيمنة الأمريكية والتحولات الجذرية في أدوار المؤسسات الأمنية الدولية؛ مثل حلف “الناتو” ومنظمة شنغهاى للتعاون.
حيث ارتبط بهذه التحولات الجارية على الساحة الدولية، أن فقدان روسيا الدراماتيكي لنفوذها العالمي في أعقاب تفكك الاتحاد السوفيتي عام 1991، وما تبعه من تراجع المعسكر الشرقي، وبسط المعسكر الغربي لهيمنته على الساحة الدولية، قد أدى إلى تلاشي أغلب المفاهيم التي ارتكز عليها النظام الدولى، وحجب الحقيقة الاستراتيجية الأهم منذ ذلك الحين؛ وهي أنه خلال العقود الثلاثة الماضية لم تحافظ روسيا فقط على موقف “عدواني” تجاه الولايات المتحدة؛ ولكنها سعت أيضاً إلى استعادة مجال نفوذها على الساحة العالمية، فالانتصار الأمريكى في الحرب الباردة لم يضع حداً للتطلعات الروسية التى وإن كانت لا تحاول نشر الفكر الشيوعى، إلا أن الأهداف القومية الروسية حالياً متشابهة تماماً مع نظيرتها في الحقبة السوفيتية؛ من حيث السعي إلى تقويض الموقع الاستراتيجي للولايات المتحدة، وزيادة النفوذ الروسي حيثما أمكن ذلك؛ بهدف نزع الشرعية عن النظام الغربي وإعادة تأهيل الدول الرافضة للسياسات/ التدخلات الغربية وإدماجها بصورة أكثر تأثيراً في السياسة الدولية.
وقد نجحت روسيا في استثمار الاخفاقات الأمريكية في مرحلة ما بعد 1991، والتي كانت مُنشغلة بصياغة نظام ما بعد الحرب الباردة المحدد بهيمنة أمريكية أحادية القطب، والتفرغ لمواجهة “الإرهاب العابر للحدود” باعتباره التهديد الجديد، غير المُتكافئ، عديم الجنسية، الأيديولوجي، والذي يبدو أنه موجه نحو الغرب، بالتوازي مع غض الطرف عن الخصم الاستراتيجي الأهم/ والأشرس وهو الدب الروسي، الذي يحاول حثيثاً إضعاف الموقف الاستراتيجي الأمريكي لترسيخ الهيكل الجيوسياسي للنظام العالمي في مرحلة ما بعد القطبية الثنائية.
وقد ساهم في تزايد وتيرة التفاعلات السياسية الهادفة إلى إعادة تشكيل ملامح النظام الدولي، محددان رئيسان؛ يرتبط الأول: بنظرة الرئيس “بوتين” الاستراتيجية التي تنطلق من ضرورة إعادة روسيا إلى ما يعتقد أنه مكانها الصحيح كقوة عظمى عالمية، وإن لم تكن قوة سوفيتية شيوعية، فهي عملاق أوراسي من شبه الجزيرة الكورية إلى العمق الأوروبي، بكل ما يعنيه ذلك من بناء علاقات هيمنة مع دول جوار روسيا، وتعزيز الترابط الاقتصادي مع دول القارة العجوز خاصةً في مجال الطاقة، فضلاً عن توسيع النفوذ الروسي في منطقة الشرق الأوسط.
والثاني: ما شهدته منطقة الشرق الأوسط من تراجع في الدور الأمريكي، الذي يمكن إرجاعه إلى العواقب الوخيمة لتفويض الكونجرس الأمريكي في أكتوبر 2002 للرئيس “بوش الابن” لاستخدام القوة العسكرية كلما اعتبر ذلك “ضرورياً” مع نظام “صدام حسين”، حيث حمل هذا التفويض تأثيراً هائلاً وضاراً على السياسة الخارجية والأمن القومي الأمريكى، بما في ذلك تواضع التركيز على الأهداف القومية الروسية التي تأتي كخصَم من النفوذ الأمريكي على الساحة الدولية.
ولذا؛ فقد قامت “واشنطن” مؤخراً بتلافي أخطائها الاستراتيجية بالتركيز على مكافحة الإرهاب، بكل ما استتبع ذلك من تدخلات عسكرية أمريكية في العراق وأفغانستان، من خلال الانسحاب الأمريكي الذي وصفه البنتاجون بأنه “فشل استراتيجي” مع انتصار حركة طالبان في أفغانستان، وإعادة توجيه الخيارات/ والأولويات الأمريكية نحو مواجهة روسيا وكذا الصين على الساحة الدولية، فقد أصدر البيت الأبيض، في 12 أكتوبر 2022، الاستراتيجية الأولى من نوعها للأمن القومي الأمريكي، في عهد الرئيس “بايدن”، والتي أعلن فيها أن الهدف الرئيسي للولايات المتحدة يتمثل في “التغلب على الصين وكبح جماح روسيا”، وهو ما يعني أن الولايات المتحدة انشغلت بأهداف ثانوية منذ نهاية الحرب الباردة كالحرب على الإرهاب على حساب التحدي الجوهري المُتمثل في تصاعد النفوذ الروسي عالمياً.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.