عبد الحسين شعبان يكتب | طيران فوق عش الوقواق (2-2)

0

يصوّر الفيلم شخصيات أخرى مثل الزعيم الهندي الأحمر قليل الكلام لدرجة الصمت، وثمة من هو غير قادر على النقد أو التعبير وما عليه سوى تنفيذ الأوامر التي تصدرها الممرضة ذات القلب القاسي، والتي تجسّد سلطة الاستبداد، وهكذا يتعالى مشهد الصراع والتمرّد من جهة، ومحاولة فرض التسيّد والهيمنة من جهة أخرى، حيث يُظهر المؤلف قدرة هائلة على رسم ملامحها بدقة على نحو حي يتجسّد بصورة دراماتيكية في الفيلم والمقصود بذلك إفقاد الناس القدرة على التعبير، وإجبارهم على الرضوخ، بل واستسلامهم لما تريده السلطة، خصوصًا في ظل الأنظمة الشمولية التوتاليتارية التي عرفتها دولًا عديدة منها الدولة التي جاء مخرج الفيلم منها، فالصمت هو مقياس النجاة، وحتى حين تعبّر السلطة عن تطلّعات الناس أو تفرض عليهم ذلك دون وجه حق، فإنهم لا يستطيعون أن يحتجّوا عليها.
ويعرض الفيلم مشهدًا تقوم به الممرضة الغليظة في التعبير عن رأي النزلاء في لعبة كرة السلّة دون أن يستطيعوا أن ينبسوا ببنت شفة، فقد ظلوا صامتين وهي من يجيب عنهم، والقصد من ذلك أن السلطة دائمًا ما تسعى للإنابة عن الناس حتى في التعبير عن أنفسهم وتطلعاتهم، وذلك في محاولة لخلق مجتمع يقوم على الرضوخ والتبعية ونمط التفكير السطحي الخانع، خصوصًا وأنها تضع العقبات والتحدّيات أمام الناس، بل تُبالغ فيها لإلقاء اللوم عليهم وتحميلهم مسؤولية ما يحصل.
حاول المؤلف، ويبدو بشكل أوضح في الفيلم، كسر شوكة السلطة وذلك بالاحتجاج والتمرّد عليها ومخالفة أنظمتها، حيث أخذ النزلاء سرًا في جولة للبحيرة دون علم المسؤولين عن المصحة العقلية، وذلك كي يُظهر إمكانية تحقق ذلك، وهو ما كان يقوم به ماكميرفي.
وتنطلق الرواية من فكرة أساسها العقاب كملازم للسلطة وداعم لها للاستمرار والتسلّط. وهي ما تقوم به بعض الأنظمة التي تعاقب المذنب والبريء. تقول بعض تجارب العالم الثالث نعدم من هو متهّم، فمن كان بريئًا سيذهب إلى الجنة وإن كان مذنبًا فهو ينال جزاءه العادل، وذلك جزء من تسويغ له طابع ديني، وثمة من يقول نعدم عشرة حتى لو كان بعضهم أبرياء فسوف نخيف الناس انطلاقًا من الزعم بادّعاء الأفضليات وامتلاك الحقيقة، وأن ذلك في مصلحة الثورة حتى وإن ذهب بعض الضحايا.
وهكذا يصبح العقاب غاية وليس وسيلة فحسب، والوسيلة هي التعبير الأكثر وضوحًا عن الغايات، فإذا كانت الغايات شريفة فلا بدّ من أن تكون الوسائل شريفة أيضًا، وتسعى السلطة دائمًا لدعم الاضطهاد السياسي والبوليسي بوسائل أيديولوجية بهدف السيطرة على العقول وعبر أساليب دعائية ونفسية، وحسب مفهوم السلطة، على الناس الانتظام في طوابير مثل مرضى المصحّات العقلية تعلّة أن أي خروج عن النظام يحتاج إلى تأديب وعقاب، مثله مثل التمرّد على السلطة أو الاحتجاج عليها فإنه يتطلّب علاجًا بما فيه القمع أو حتى زجّ هؤلاء بمستشفى الأمراض العقلية لإعادة التأهيل وللانتقام ولإظهار سطوة النظام، وبالتالي إشعار الجميع بالرعب، ذلك ما يعكسه جورج أرويل في روايته الإستشرافية 1984، التي كتبها في العام 1948.
ولمعاقبة المتمردين يعرض الفيلم عزل ماكميرفي في غرفة منفردة بعد إجرائه تداخل جراحي في المخ، لينتهي دوره ويُصبح بلا تأثير، وهو ما تسعى السلطة للقيام به دائمًا في علاقتها مع المعارضة، ومع قادة الرأي، ولاسيّما من النشطاء والمؤثرين. وحين يتحوّل المتمرّد إلى مجرّد جسم غير قابل للحركة يقرر زعيم المجموعة، الذي كان يعتبره ملهمًا، خنقه لأنه يعتقد أنه لا يريد أن يعيش مثل جثة هامدة بلا تأثير، وهو صاحب مشروع التغيير. وفي هذا الجو الدرامي المشحون بحبكات متداخلة ومعقّدة تتصاعد الموسيقى التي تتكرر من أول الفيلم إلى آخرة، فيهرب زعيم الهنود الحمر وهو أيضًا أحد المرضى “النفسيين”، ويتردد الكلام “طار فوق عش الوقواق”.
الطريف أن مؤلّف الرواية لم يشاهد الفيلم الذي أنتج عنها، على الرغم من أن حلمه كان أن يرى الرواية التي كتبها للسينما في العام 1962 أن تصبح فيلمًا، ولكنه بعد عدّة أسابيع أقام دعوى ضدّ منتجي الفيلم، وبعد بضعة سنوات عثر على الفيلم في إحدى القنوات الفضائية فشاهده مستمتعًا به.
ويبقى فيلم “طيران فوق عش الوقواق” السبعيني من أكثر الأفلام التي تركت تأثيرها على المشاهد، وما يزال تأثيرها إلى اليوم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.