تنطلق أطروحة المقال من معطييْن، الأول: أنّ الغرب متفوق على الشرق في مجالات العلوم والطب والتكنولوجيا والتصنيع والتسليح والاختراعات والأبحاث العلمية والعمارة والنظم الإدارية والفنون والرياضة والآداب ورفاهية الإنسان وحقوق المواطَنة والدولة المدنية..إلخ، والثاني: أن هذا التفوق بدأ مع عصر النهضة والثورة الصناعية (مستفيدا من الحضارات السابقة بما فيها الحضارة العربية الإسلامية)، وأخذ يسير بخطى متسارعة.
أما الفرضية فمفادها أن الافتراق بين الشرق والغرب (لصالح الغرب) بدأ منذ وقت أقدم بكثير، ربما من زمن الإغريق. وهنا للتوضيح يمكن القول أنَّ الشرق القديم كان يضم كلاً من مصر وبلاد الشام ووادي الرافدين وفارس والهند والصين.. فيما ضم الغرب القديم حضارات الإغريق والرومان.
وسبب هذا الافتراق أنَّ حضارات الغرب القديمة اهتمت بالمسرح والفنون والآداب والعمارة بنزعة مادية تتجه نحو الحياة الدنيوية، فاتحةً عينيها على الواقع، خلافا لحضارات الشرق التي انشغلت بالحياة الآخرة، وما بعد الموت، بفلسفة مثالية، وظل نتاجها الأدبي والثقافي محصورا ضمن المعبد.. ومن تجليات هذا الفارق نرى مثلا أن حضارة مصر القديمة بنت الأهرامات والمعابد والأضرحة بما يخدم عقيدة ما بعد الموت، بينما بنى الإغريق والرومان المسارح والمدرجات والساحات المفتوحة على الحياة.
وفي بلدان الشرق ظهر بعض الحكماء، ولكن لم يبرز فلاسفة ومفكرون (باستثناء لاوتسي، وكونفوشيوس وبوذا)، بينما أنتج الإغريق والرومان فلسفة كاملة.. في الشرق نشأت دراما ولكنها ظلت محصورة في نطاق المعبد والطقوس الدينية والغنوصية، بينما في الغرب كانت الدراما فن دنيوي، نشأ وترعرع خارح المعبد، حتى أساطيرهم كانت أدبية محلقة مثّلها شعراء ومسرحيون مثل هوميروس، ممن أنسنوا الأسطورة الدينية، وجعلوا منها فنا وأدبا رفيعا، بينما ظلت أساطير الشرق تُتلى في المعابد كطقس ديني.
صحيح أنّ حضارات الشرق امتلكت علوما متطورة، وقد أبدع علماؤها في الهندسة والرياضيات والعمارة، لكنهم وظفوا علومهم في الطقوس الدينية والروحانيات، وبناء المعابد والقصور ولخدمة الطبقات الحاكمة، وبما ينجز أعمالهم اليومية، ولم تتحول إلى علوم نظرية ونظريات علمية، وأبرز مثال على ذلك أن حضارة بابل اخترعت البطارية واستخدمتها لطلي المعادن بالذهب، ولم يطوروها لإنتاج الكهرباء، وأيضا “نظرية فيثاغوروس” كانت معروفة في بابل قبل مجيء فيثاغورس لدراسة علم المثلثات في بابل، وعندما عاد إلى بلاده لم يكتفِ بزعم ابتداعها (كنظرية علمية) بل استخدمها في البناء والهندسة. ولو أخذنا حضارة مصر القديمة سنجد عشرات الأمثلة الشبيهة، فقد عرفت تلك الحضارة الطب والهندسة والفلك، لكن توظيفهم لهذه العلوم كان حصرا للمعابد والأضرحة، ولخدمة المقدس.
وفي السياق ذاته، اختبر الإغريق والرومان شكلا متقدما (نسبيا) من الديمقراطية، وربما كان هذا أحد أسباب تفوقهم، حتى عسكريا، فالجنود والمواطنون كانوا أحرارا، بينما في بلاد فارس كان المواطنون تابعين للحاكم (شبه عبودبة، وبدون حرية)، فلم يكن مستغربا أن الإسكندر المقدوني تمكن بقوة مكونة من 35 ألف جندي فقط من اجتياح العالم القديم.. من مصر غربا حتى الهند شرقا.
هذا ما قاله المؤرخ العراقي “خزعل الماجدي” في محاضرة بعنوان: “الشرق يتعبد والغرب يفكر”، مضيفاً: “أصل الحضارات الإنسانية كلها بدأ من الشرق، وقد ظهرت أول حضارة غربية (الإغريق) بعد نحو ألفي سنة من نشوء حضارات سومر ومصر القديمة، لكن الشرق حدّق في السماء فنام، بينما حدّق الغرب في الأرض فنهض”.
ويضيف “الماجدي” بأن الشفافية العالية التي تعامل بها الإغريق بنزعة الفسلفة المادية حولت العلوم إلى نظريات علمية يمكن البناء عليها، لذا كانوا هم أصحاب المسرح والفلسفة والعلوم النظرية، خلافا للشرق الذي ظل أسير الفلسفة المثالية، ومنشغلا بالحياة الآخرة.. فمثلا، كان الملك في مصر القديمة بمجرد تنصيبه، ومنذ اليوم الأول يبدأ النحاتون والبناؤون بتشييد قبره، والذي يحتاج أحياناً عدة عقود، وبتكاليف باهظة، مستنزفا مقدرات الدولة وطاقات الشعب.
ويؤكد “الماجدي” أنَّ غلبة النزعة المثالية على المادية، وإغراق الحياة بها (الانشغال بالغيبيات والروحانيات) منع نمو نبتة النزعة المادية الضرورية لتطور العلوم وازدهار الحياة.. وهذا ما حصل في حضارات الشرق التي استغرقت زمنا طويلا في المثالية، وهي عالم وهمي ومعنوي ومتخيَّل، وقد ظلت متمسكة بالدين والطقوس، دون تطوير للعلوم النظرية، ودون الاهتمام بالأرض والناس والمستقبل، بل تم تخفيض سقف الحرية والتفكير إلى حد مخيف.. بينما في حضارة الإغريق تفوقت الفلسفة المادية على الفلسفة المثالية وهيمنت عليها وقادتها، بما سمح بتراكم العلوم المادية، وصولاً إلى عصر النهضة حين بدأ إقصاء الكهنوت عن المشهد (تحرير العلم من الأكليروس، وفصل الدين عن السياسة)، وانتهاء بالقرن التاسع عشر، حيث أحرز العلم انتصاره الساحق على المثالية والغيبيات. والمفارقة هنا أن هذا الفتح الكبير صار ممكنا بعد الإطاحة بالبديهيات التي تأسست في عصر الإغريق على يد بطليموس.
لكن تطور العلوم الإغريقية لم يدم طويلا، فبعد أن أسست الفلسفة والعلوم النظرية، وبدلا من مواصلة البناء عليها، جاءت نهايتها درامية ومفجعة، بمشهد قتل العالمة السكندرية “هيباتايا” في القرن الخامس الميلادي، على يد المتدينين المتعصبين، لتدشن بعدها حقبة الصراعات الدينية، وتُطفأ شعلة العلم لأربعة قرون متواصلة، ساد خلالها ظلام دامس امتد في ربوع الأرض.. إلى حين صعود الحضارة العربية الإسلامية في القرن التاسع الميلادي، والتي ازدهرت وامتدت حتى القرن الحادي عشر، حيث خمدت سريعا، وأفَلت على يد الفقهاء والسلفيين الذين تحالفوا مع سلطات استبدادية حاربت العلماء والفلاسفة والفنانين والأدباء وضيقت عليهم، وكفرت بعضهم، مستقوية بسطوة رحال الدين والكهنوت، عامدة إلى إلغاء العقل والتشكيك بقدراته، وحصره في نطاق النص والمقدس (انتصار النقل على العقل).
في أوروبا امتد الجهل والظلام عشرة قرون كاملة (من القرن الخامس حتى الخامس عشر)، إلى أن بدأ عصر التنوير ثم النهضة ثم الثورة الصناعية، وصولا إلى عصر التكنولوجيا وعصر الثورة الإنسانية الشاملة، والتي بدأت بمركزها الغربي، ثم صارت معولمة وإنسانية.
باختصار: في حضارات الغرب تم فصل العلوم عن الدين منذ وقت مبكر، ونشأت مجتمعات شبه علمانية.. في الشرق هيمن الدين على العلوم، ونشأت مجتمعات دينية..
كل الحضارات اهتمت بالتطور وبحثت عن الحقيقة.. لكن “الحقيقة هنا، وليست هناك” كما قال أرسطو.
