عبد المجيد إسماعيل الشهاوي يكتب | استعلاء الثقافة العربية على الفرد

0

على مر تاريخها الممتد، تقر الثقافة العربية بدور الفرد في المجتمع وأهميته لضمان الاستمرارية. وهي في ذلك تتلاقى مع أغلب، إن لم يكن كل، الثقافات الأخرى غير العربية حول العالم. لكن التباين والافتراق سرعان ما ينهضا عقب هذا الإقرار المبدئي، حيث تحصر الثقافة العربية، مثل أخرى عديدة، الفرد في دور التابع أو المقود أو ’المفعول به‘ لخدمة أغراض الثقافة نفسها بصفتها ’الفاعل‘ والحكم الأعظم الذي لابد وأن ينصاع الفرد لانحيازاته ومقتضياته مهما كان الثمن. ومن ثم يتحول دور الفرد إلى ’خادم‘ مطيع للثقافة الجمعية وليس صانعًا لها أو فاعلاً أو مؤثرًا فيها.

لكن إذا كان الفرد، كما تزعم الثقافة العربية، ليس أكثر من تابع مطالب بالانصياع لإملاءاتها حتى لو كانت لا تستهويه أو تضر به مباشرة، فإلى ماذا تنسب هذه الثقافة المتعالية على الفرد منشأها وأصلها، ومن ثم مرجعيتها؟

في الحقيقة، الثقافة العربية تنظر إلى نفسها باعتبارها أكبر وأعظم وأسمى من مجموع كل أفرادها، سواء السالفين أو الحاضرين أو المستقبليين. ولا تكتفي أبدًا بزعم أن منشأها بشري، حتى لو كانوا بشرًا من الرسل والأنبياء. بل هي، دائمًا وأبدًا، تضفي على نفسها هالة من القداسة تسمو فوق البشر قاطبة والكون كله. هي صنف فريد من ’المعجزة‘، ولا ينبغي لأحد أن يسأل عن السبب أو الأسباب المنطقية للمعجزة. هنا تنتفي المسببات ولا يتبقى للسؤال والمنطق مكانًا. هي ’معجزة‘ وليس أمام الفرد العاقل سوى التأمل في إعجازها، والذود عنها والتضحية من أجلها حتى بنفسه. وهكذا أفلتت الثقافة العربية من نقائص عوالم الأرضيين إلى طهر عالم إلهي سماوي متخيل، لتصبح أقل محاولة للاقتراب منها ونقدها، ناهيك عن مراجعتها ودحضها، نوع من الدنس والفتنة تستوجب الوأد فورًا.

لندع نظرة الثقافة العربية لنفسها جانبًا ونقلب العقل في الأمر قليلًا. حتى نعرف منشأ الثقافة وأصلها، لابد أن نعرف ما هي أولًا. ماذا تعني كلمة ’ثقافة‘؟

’الثقافة‘ هي المحصلة النهائية لتفاعل الإنسان مع بيئته الطبيعية، تتغير وتتبدل بالضرورة كلما طرأ تغيير أو تحديث على الأخيرة. وهي، في الوقت نفسه، قادرة على أن تساهم بنصيب وافر في إحداث التغيير أو التحديث على البيئة المحيطة بالإنسان، ومن ثم الإنسان ذاته باعتباره أحد عناصرها. بتعبير آخر، الإنسان يعيش في بيئة تؤثر فيه ويؤثر فيها، في علاقة تفاعل متبادل ومستمر، و’الثقافة‘ هي المنتج النهائي لهذا التفاعل الأزلي فيما بين الاثنين- الطبيعة والإنسان.

هنا الاستعارة من عالم المخلوقات الإلكترونية قد تساعد في التبسيط، مع وجوب توخي الحذر. ’الثقافة‘، بمغزى ما، هي معادل ’السوفت وير‘ أو نظام التشغيل المستخدم في الأجهزة الحديثة من كافة الأنواع والأصناف، من الطائرات ومركبات الفضاء والصواريخ حتى الهواتف الذكية والأجهزة المنزلية. والحقيقة الثابتة في هذا المجال، مثلما مع الثقافة، أن وجود ’السوفت وير‘ لابد أن يسبقه ويمهد له وجود ما يعرف باسم ’الهارد وير‘، بمعنى الجسد (الجهاز) المادي المحسوس المتوافق مع السوفت وير لكي يشتغل وتدب فيه الحركة والحياة. هارد وير الثقافة هو الواقع المادي المحسوس الذي تحيا (تشتغل) فيه الثقافة ذاتها، مثل الجغرافيا والمناخ والتربة والنباتات والحيوانات وتقلبات التاريخ…الخ. بتعبير آخر، ثمة علاقة غير منفكة فيما بين الهارد وير والسوفت وير، وفيما بين الطبيعة والثقافة، تمامًا كتلك القائمة بين الجسد والروح.

هكذا في غياب الهارد وير المتوافق، السوفت وير لا يساوي شيئًا. كذلك لا تساوي ’الثقافة‘ شيئًا في غياب الطبيعة، بمغزى كل ما هو مادي ومحسوس، ثابت ومتغير، وفي القلب منه الإنسان. إذا كان كذلك، يصبح الجهاز هو المرجع لنظام التشغيل، الذي يُسخر لتلبية أغراض الجهاز- لتشغيله. كذلك تصبح العلاقة أيضاً بين الثقافة والطبيعة، حيث الأولى لا تعدو كونها نظامًا أو تصورًا القصد منه استغلال (تشغيل) الطبيعة لخدمة أغراض معينة يعينها الإنسان ذاته. فإذا تغيرت أو تحدثت الطبيعة المادية المحيطة لدرجة تجعلها غير متوافقة بعد مع الثقافة، حينئذ تصبح الأخيرة عديمة النفع ويلزم البحث عن سوف وير جديد للعودة بالطبيعة إلى حالة التشغيل (الإنتاجية) من جديد.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.