عزالدين غازي يكتب | البيغ داتا وجيل رابع من العلوم

0

لقد كان التصور الكلاسيكي للعلوم قائما على وحدة معرفية؛ أي حول كيفية إجراء العلم باستخدام طرق علمية محددة سلفا ومدعومة باختبار الفرضيات للتحقق من النظريات أو دحضها ، لكن هذه الرؤية كانت أكثر خطية في تطور التخصصات ، رغم أن فكرة النموذج العلمي حسب جون كوهن The Structure of Scientific Revolutions 1962) (تطرح مشكلة في ممارسة النظرية، بيد أن النقاشات الأبستمولوجية الحالية المتعلقة بتطور البيانات الضخمة أدى إلى نتائج أخرى وهي تختلف جوهريا عن النماذج الأولى خاصة حينما نستحضر وجهة نظر كارل بوبر ( Karl Raimund Popper , Conjectures et Réfutations : la Croissance du savoir scientifique , 1985 ( الذي وضع معايير للنظرية العلمية التي أجملها في : 1) تقييم وحدة ونسقية النظرية ، 2) اختبار الصورة المنطقية للنظرية ، 3) المقارنة بين النظريات، 3) الاختبارات الإمبريقية، و5) الحقيقة والموضوعية. ومع انقطاع واتصال النظريات واستمرار نموذجها في التواجد عبر الدحض في النظريات اللاحقة كما ذهب في ذلك توماس كوهن وألفريد تارسكي وغيرهما؛ فإن فكرة التحديد الجهوي للبراديغم في النظرية الموالية ( نموذج نظرية 1 في نموذج نظرية 2)؛ لم تعد قادرة على هذا التحديد بشكل خطي، بل أصبح البعد الالتفافي حول النظرية نفسها فارضا نفسه من خلال حقيقة البيانات التي تشتغل في فضاءات وفي أبعاد دينامية مختلفة ؛ وهذا ما يكشف مسبقا دور ثورة البيانات في خلق نظرية معرفية بديلة في العلوم الانسانية والاجتماعية وتغيير ممارسات البحث العلمي؛ رغم الجدل الدائر حيال هذه الممارسات الجديدة. وفي هذا الصدد نستحضر نموذجا أبستمولوجيا جديدا وهو تصور جيم غراي (Jim Gray 2009) المعروف بالنموذج العلمي الرابع القائم على البيانات الضخمة ( The Fourth Paradigm : Data –Intensive Scientific Discovery (والذي يُنذر بعصر جديد من التجريبية والامبريقية المفرطة حيث حجم البيانات مصحوبا بتقنيات تكشف الحقيقة في نفسها دون نظرية مستقلة على الرغم أن اتجاها ما فتأ يصر على جعل البيانات علما مستقلا بذاته data science، فهل يمكن القول أن النظريات العلمية تحتضر أمام هذه التجريبية الجديدة ؟ وقد ذهب ها هنا شريس أندرسون 2008 ( Chris Anderson : The End of Theory : The Data Deluge Makes the Scientific Method Obsolete ) ) في قوله أن ” طوفان البيانات سيجعل المنهج العلمي قديما” لأن البيانات في حقيقتها تنتج نمطا تجريبيا جديدا لإنتاج معرفة جديدة وبمعايير تختلف تماما عن معايير النماذج العلمية السالفة، حيث كانت النظريات العلمية الكلاسيكية تنطلق من فرضيات قد تصدق أو لا تصدق بينما تقوم البيانات على خوازميات إحصائية وعلى حقائق facts تقود إلى استنتاجات معرفية جديدة يتقدم فيها العلم دون نماذج متماسكة وموحدة في تفسير الظواهر، وكذلك مع البيانات الضخمة يمكن استخراج مجموعة من الأنماط واكتشاف التأثيرات وانتاج استنتاجات دون الإغراق في التجارب لأن تحليل البيانات يؤدي آليا إلى الحصول على القرار الكامل décidabilité دون عناء اقتراح أو بناء فرضية كما قال دفينبورت وآخرون Davenport. T, Jill Dyche 2013 : Big Data in Big Companies) ( ، بل ولم يعد التفكير فيه قطعا، لأن بدائل البيانات كثيرة وأشمل من النموذج العلمي الكلاسيكي ذلك أنها: 1) تلتقط المجال وتقدم الدقة حول معطياته المختلفة ، و2) لا تحتاج لنماذج أو فرضيات ، و3) لأن البيانات صادقة وواقعية انطلاقا من علاقاتها ، و4) بدل السياق الخاص في المجال الخاص الذي يفرضه النموذج ؛تعطي البيانات أهمية للمعنى لأن تشفير البيانات هو إمكان لتصور جديد أيضا. وعلى الرغم من شمولية البيانات الضخمة وسعيها وراء ذلك؛ فإنها تمثيل لعينة ( ظاهرة ) تم تشكيلها من خلال البرمجيات ومن خلال أنطولوجيا البيانات المنظمة لمجال وبيئة معينة ( كروفورد كيتش 2013). ولعل صرامة البيانات الضخمة مستمدة من قوة الفلسفة الطبيعية التي أسهمت في تشكيل الظواهر القابلة للإدراك الدينامي بتطبيق التحليلات الخوارزمية المستمرة في التفكير العلمي وفي الاختبارات، إذ رغم الوظيفة التلقائية للبيانات فإن خوارزمياتها نشأت بخلفية فلسفية أيضأ ( Gould 1981 : The Mismeasure of man) حيث خضوع الخوارزميات للتأطير البشري المسبق مثل ما يحصل في الأنظمة الخبيرة والتطبيقات الذكية المختلفة.. وبالفعل لقد مر قرن من التحليل الكمي وبناء النماذج ما جعل التراكمات المعرفية تسهم في بناء خوارزميات لحل مشكلات عويصة وكثيرة ونماذجها دائمة التطور.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.