عزالدين معزة يكتب | المثقفون والجماهير والسلطة (2-2)

0

أورد عثمان أمين في كتابه عن الفلسفة الرواقية قصة نقلا عن ابيكتيتوس في كتابه المقابلات مضمونها: أن الإمبراطور تيتوس فيسباسيانوس 69/79. أرسل إلى الرواقي بريسكوس يطلب منه عدم الذهاب إلى مجلس الشيوخ وقد كان عضوا فيه. فأجابه: بمقدورك أن تحول دون انتخابي عضوا في مجلس الشيوخ، لكن لا بد لي من الذهاب إلى المجلس ما دمت عضوا فيه.
فقال له: فليكن. لكن اذهب ولا تتكلم.
قال الرواقي: أنا ساكت ما دمت لا تسألني عن شيء.
فقال الإمبراطور: لكن لا بد أن أوجه إليك بعض الأسئلة.
فقال الرواقي: إذن لا بد لي أن أقول ما أراه حقا.
الإمبراطور: إذا تكلمت بما تريد أمرت بقتلك أو نفيك.
الرواقي: ومتى قلت لك إني من الخالدين؟ أنت تؤدي مهمتك وأنا أؤدي مهمتي. مهمتك قتل الناس أو نفيهم، ومهمتي أن أموت دون وجل، وأن أذهب إلى المنفى من غير جزع أو ابتئاس.
هذا الحوار يلخص الدور الحقيقي للمثقف الفعلي ألا وهو قول الحقيقة أمام طغيان السلطة واستبدادها دون خوف أو وجل أمام الموت. فالموت الذي يُهَدَّدُ به المثقف هو قادم في النهاية بيد السلطة أو بسواها. فالموت هو الحقيقة الوحيدة التي لا مهرب منها. بل لعل الموت هو الحقيقة الوحيدة التي تستحق هذا الاسم. فخوف المثقف من الموت إنما هو في الأصل خوف من الحقيقة ذاتها، لذلك يستسلم العديد من المثقفين إلى تهديدات السلطة ليس خوفا من الموت القادم عبرها بل خوفا من الحقيقة ذاتها التي قد تحرج المثقف ذاته قبل أن تحرج السلطة والمجتمع.

إن المثقف في العالم العربي قد تحول إلى ما يمكن تسميته بالمثقف المبرمج التابع للسلطة إنه يشبه الإنسان المبرمج جينيّا الذي تشتغل عليه علوم الجينات وهو شخص مبرمج وفق ما يطلبه وما يرغب فيه الأولياء (أي قبل تكون الجنين) بما يعنيه ذلك من ظهور نموذج غير مسبوق من البشر، وهو نموذج سيكون مسلوب الإرادة والحرية ومجرد تابع لرغبة السلطة الأبوية أو السياسية التي تريد مواطنين متماثلين ومطيعين وقابلين للتحكم عن بعد. لقد تحول المثقف في العالم العربي إلى أن يكون مبرمجا طبقا لحاجة ورغبات السلطة بكل أشكالها وتحولت الثقافة إلى ثقافة تميل طبقا لميول السلطة الفاعلة في المجتمع ولذلك نجد اليوم الكثير من المثقفين المأثرين في الرأي العام في بعض الدول العربية يبررون ما يحدث من حملات تطبيع (كنا ننتظر حملات تحرير فإذا هي حملات ارتماء في حضن المحتل) وقد وصل بهم الأمر إلى التأصيل الشرعي لهذه الخيانة للقضية الفلسطينية مستغلين شخصياتهم الاعتبارية الدينية. لقد تحولوا إلى إكليروس لكسب ود السلطة.
لقد تحولت النخب الثقافية في الدول العربية إلى سلاح موجه ضد الشعب، وأداة تبرير لكل ما تقوم به السلطة من فساد على جميع الأصعدة والمستويات حتى صار الفساد صلاحا وتحول الصلاح إلى فساد. لقد حول هؤلاء الحق باطلا والباطل حقا. لقد وظفوا كل أدوات التأثير التي يمتلكونها كشخصيات عامة من أجل تبرير كل تجاوزات السلطة. فالمصلحة الشخصية والمكاسب المادية والمناصب العليا، هي التي أصبحت المثل العليا لهؤلاء مما يسر برمجتهم من قبل السلطة حتى أصبحوا خدما للنظام القائم بل أصبحوا عبيدا يحملون المظلات حتى لا تتساقط الحرية على الشعوب فتهدد عروش السلاطين الجدد.
الشعوب العربية في الحقيقة ليست شعوبا مغلوبة على أمرها بل هي شعوب مغيّبة عن حقيقة واقعها وعن طبيعة المعركة. وما سياسة التجهيل والتفقير والترهيب ونشر الجريمة والانحراف والمخدرات والمهلوسات والشذوذ والتغريب إلا أداوت لتحقيق هذا الهدف الذي يضمن رضى الجماهير بواقعها. بل يمكن القول إن حالة الفوضى التي تعمّ المنطقة والعمليات الإرهابية التي ترتكبها هذه الأطراف أو تلك، كما يحدث في سوريا أو ليبيا أو العراق أو اليمن والجزائر خلال العشرية الدموية، إنما هدفها السعي إلى ترسيخ مقولة أن الشعوب العربية همجية إرهابية فوضوية لا يصلح لها إلا العصا والجوع ، ألم يقلها سابقا احد رؤساء الوزراء ” جوع كلبك يتبعك ”
خلاصة القول هي أنّ الشعوب العربية ليست شعوبا مغلوبة وجاهلة وفوضوية كما تحاول منصات الإعلام الرسمي الإيهام بذلك وليست شعوبا منهزمة بل هي شعوب مقاومة إنْ لم نقل إنها آخر الشعوب المقاوِمة. الاستبداد ليس قدر هذه الشعوب وليس قضاء الله في خلقه بل هو نتيجة حتمية لصناعة النظام الرسمي وأذرعه الداخلية والخارجية. الشعوب العربية ليست شعوبا متخلفة وجاهلة وفاسدة بل اريد لها أن تكون كذلك، بل وهي تعيش الآن أخطر أطوارها الحضارية الذي تحاول عبره الخروج من دائرة العدم الحضاري نحو التأسيس لوجود جديد قائم على حرية الإنسان وكرامته.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.