عزيز باكوش يكتب | دخل المستشفى طبيبًا وخرج مجنونًا (1-2)

0

كان شابا يافعا عندما أصيب بمرض السل ، والأنكى من ذلك ،أنه كان يدرك خطورة مرضه ، غير أنه لم يقم بأي مبادرة لمعالجة الألم طوال حياته . إنه أنطوان تشيخوف الأديب الروسي الشامخ ،ونجم القصة الأدبية وواحد من أكبر ألمعييها عبر كل الأزمنة ، بل واحد من أفضل كتاب القصة القصيرة على مستوى القرون الثلاثة الماضية. عاش تشيخوف قمة التواضع والنزاهة . وقد عبر عن ذلك في كتاباته كإنسان بمشاعر رائعة ،وأفكار خلدت طيبة روحه بأفكار مستنيرة لن تموت أبدا .
آخر ما قرأت لتشيخوف أحد عمالقة الأدب الروسي رواية ” الردهة 6″ تدور أحداث هذه القصة داخل مستشفى للأمراض النفسية ، هو مستشفى ريفي، تحف به العفونة ويطال الصدأ تجهيزاته، وتحيط النفايات المتكدسة على الجنبات ،سيء التنظيم وشديد القذارة ،تعمه الفوضى والإهمال، وبه حارس وحيد قاس وعنيف يدعى نيكيتا وهو جندي عجوز متقاعد بسيط وإيجابي مطيع وبليد . وفي إحدى أجنحة المستشفى الذي يشبه حظيرة حيوانات ، يعيش خمسة وعشرون مريضا نفسيا ” مجانين” حياتهم تغلب عليها الفوضى،وتتسم باستخفاف شديد وتقصير مذل للحياة البشرية من فضاعة الاستهتار وسوء المعاملة

وتشاء الصدف أن يمر بهذه الردهة رقم 6″ الدكتور أندري ييفيميتش وهو طبيب شاب فريد من نوعه ،كان يعد نفسه للخدمات الدينية ،لكن أباه الطبيب الجراح سخر منه وأكد بشكل قاطع أنه لن يعتبره ابنا له إذا أصر أن يكون قديسا” وعندما أنيطت به مسؤولية إدارة المستشفى الذي كان في حالة يرثى لها ومن الصعب التنفس فيه من عفونة البق والصراصير والفئران ، لم يكن راضيا ولا مقتنعا بالمهمة .فبعد أن تفقد أندري المستشفى توصل لاستنتاج مفاده أن هذه المؤسسة غير أخلاقية ومضرة بصحة النزلاء إلى أقصى حد ،وكان رأيه أنه من الصواب إطلاق سراح المرضى وإغلاق المستشفى” لكنه أدرك أن إرادته وحدها لا تكفي ما رفع من منسوب
معارضته للأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في روسيا ، لذلك ظل يشعر بالمرارة واليأس الشديد. فضلا عن كونه لم يعد مقتنعا بنجاعة الطب النفسي في معالجة هذه الأمراض المتراكمة .وكان هذا مصدر قلقه الدائم . وأثناء مروره بالردهة ،صادف أحد المرضى الاستثنائيين ، مريض نفسي ومثقف يدعى(إيفان ديميتريتش) موظف محكمة سابق وسكرتير المحافظة . كان ذكيا وعلى مستوى عال من الوعي وعلى اطلاع كبير بأحوال العالم ، لذلك أصبح صديقه المفضل ،رغم أنه مريض وظل يعاني من عقدة الاضطهاد. لقد وثق به وصادقه بحب، لدرجة أن الطبيب كان يمضي الليالي الطويلة في المستشفى يتجاذب أطراف الحديث مع صديقه «المريض»إيفان ، فيخوضان معا في نقاشات تتناول أحوال الناس ومعيشهم اليومي ..وحوارات علمية وفلسفية.

وتحدث الصدفة أن يأتي مساعد للطبيب ،فيكتشف كيف أن رئيسه ومدير المستشفى يحاور مريضا نفسيا وفي تمثلات هؤلاء لا يخاطب المجنون بالعقل والمنطق إلا مجنون مثله ، فحمل الخبر إلى الإدارة ،مؤكدا أن طبيب المستشفى أندري مجنون وفاقد للعقل ، لأنه لا يتحدث مع مجنون مثله . لكن المفاجأة ،هي أن الإدارة ،ستأخذ الخبر مأخذ الجد، وتتبنى موقفا مؤيدا وداعما لمساعد ما جعل الطبيب في مأزق حقيقي . وبات عليه مواجهة الأمر . وتتطور الأحداث وتتجه منحى خطيرا ،ويقدم طبيب المستشفى على الاستقالة من مهمته الوظيفية في علاج المرضى خوفا وتذمرا وربما كأقصى تعبير عن خيبة الأمل . وتتصاعد الأحداث والتصرفات المقلقة والمثيرة ،لتؤكد أن الطبيب مريض نفسيا ،لقد بدا ذلك من خلال سلوكه وتصرفاته ،وهو ما يؤكد ما ذهب اليه مساعده.

وينتهي الأمر بمغادرة الطبيب المستشفى كمريض نفسي هذه المرة . ولنا أن نتصور كيف جاء إطار طبي في مهمة لمعالجة أوضاع مرضى نفسيين ،وبعد مدة وجيزة ،سيغادره مريضا نفسيا وليس طبيبا معالجا.ويحصل الأسوأ حين يعود الطبيب أندري ثانية إلى المستشفى بعد مغادرته له على مضض، وأخذ قسط من الراحة في أماكن متفرقة خارج روسيا نصحه بها أصدقاءه. فسافر مكرها إلى وارسو التي لم يغادر فيها غرفته بالفندق. وعادا الصديقان الى المدينة . وحل الطبيب خوباتوف محل الطبيب اندري ييفيميتش مديرا للمستشفى ، وتأتي أول مواجهة مع الحارس الفض نيكيتا الذي تعامل معه كمجنون وأمده بروب وملابس داخلية وحذاء ملابس جعلته يشبه السجناء ، وعندما أبدى أندريه رغبته في الخروج من الردهة ليستنشق القليل من الهواء ليغير الجو، يفاجئه الحارس نيكيتا بضربة قوية على رأسه ، غامت عيناه وأدرك أندري أنها النهاية . لقد توفي إثر نوبة نزيف . فجاء الخدم فسحبوه من يديه ورجليه،إلى المصلى وهناك تمدد على طاولة وعيناه مفتوحتان واضاءه القمر ليلا وفي الصباح جاء سيرجيتش صلى عليه بورع على الصليب واغلق عيني رئيسه السابق ولم يحضر الجنازة سوى ميخائل وداريوشكا طاهيته.”

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.