علي فضيل العربي يكتب | التعليم قبل الديمقراطية
يعبّر مصطلح الديمقراطية عن نظام حكم الشعب . فـ ( ديموس ) تعني السلطة و الحكم و( قراطوس ) تعني الشعب . و قد وضع أهل أثينا هذا المصطلح لدعم حرية التعبير عن الرأي . و قد بلغت الديمقراطيّة الأثينيّة أوجّها السياسي ما بي عامي 460 و 429 ق. م ، و لقيت دعما كبيرا من الخطيب الأثيني ( بريكليس ) .
و يذكر المؤرخون ، بأنّ ( سولون ) ، هو أول من فنّن الديمقراطيّة الأثينيّة و شرّع لها ، ما بين القرنين السابع و السادس قبل الميلاد . حيث سمحت تشريعاته بإنقاذ أثينا من الحرب الأهليّة ، و تحرير العبيد و منع استعباد الناس بسبب عجزهم عن سداد ديونهم و عودة المنفيين و نيل حقوقهم التي سلبت منهم في الفترة السابقة من الحكم الأثيني ، و وضع حدّ لحكم الأثرياء بقيادة ( إساغوريس ) ، و بداية حكم ديموقراطي قائم على نظام المجالس و الاقتراع الشعبي .
كما يعتبر ( كليسثنيس ) المولود حوالي عام 510 ق . م أيضا ، بأب الديمقراطيّة ، حيث قام بانقلاب في أثينا و أرسى نظاما ديمقراطيّا أثينيّا .
و ” يتميز النظام الديمقراطي بتأكيده على الجوانب الانسانية التي ترى في الإنسان القيمة العليا ، لذا فهو يستمد فكره ومبادئه من قيم الحرية والعدالة وسلطة القانون ، فالنظام يتوخى تطبيق الديمقراطية من خلال المشاركة الشعبية لذا فأن الشعب فيه هو مصدر السلطات *
“.. وبشكل عام يمثل النظام الديمقراطي شكلا من اشكال النظم السياسية التي تقوم على أساس المشاركة الشعبية في المجال السياسي واختيار الممثلين عن الشعب الذين يُرى فيهم الكفاءة لإدارة شؤون الدولة وتمثل تلك المشاركة الركيزة الأساسية في نجاح النظام أو فشله ، وما يمكن أن يحقق تطلعات الشعب وأهدافه المتوخاة في الحكم الصالح , ” **
هذا عن الديمقراطية في العهد الأثيني القديم ، و عند الأوربيين . فماذا عن الديمقراطيّة في المجتمعات المتخلفة عن الركب الحضاري و التمدنّ و المعاصرة ؟ هل تصلح الديمقراطيّة و تنمو بذورها و تثمر في عقول قاحلة ، تكبّلها الأميّة البسيطة و المركّبة ؟ كيف يمارس المواطن الأمّي ، في مجتمع متخلّف ، حقّه الديمقراطي ، و هو يجهل معانى الحريّة و المسؤوليّة ، و مفاهيم المواطنة و الحقوق و الواجبات ؟
جاء في كتاب ماثيو أرنولد ” في الديمقراطية ” قوله : ” يبدو أن مجتمعا يأخذ كل يوم بالمزيد من الديمقراطية ، الأمر الذي يجعلنا نتساءل عمن أو كيف ستعبر الأمة عما تريده بوضوح وقو ة ؟… هذا هو السؤال الخطير … فالمجتمع لا يستمد قيمته الحقيقية من عدد ضخم من أناس أحرار فعّالين ، ولا من ثروته وإنمائها ، بل مما يبدعه من نبل وما يبلغه من مكانة مرموقة ، وسمعة حسنة ”
وهو بذلك يربط بين قوة وسلطة الشعب في النظام الديمقراطي والمستوى التعليمي والثقافي له ، فالحرية التي تتيحها الديمقراطية سواء في اختيار ممثلي الشعب أو في التعبير عن قناعته في مسألة ما تمثل عامل خطورة في مجتمع لم يتثقف على أسس الديمقراطية سواء من مجوع الشعب أو من قبل بعض السياسيين الذين لا يقدرون الثقة التي منحها الشعب لهم باختيارهم كنائبين عنه . وقد يكون ذلك واحدا من أسباب تأخر انتشار الديمقراطية ، فبالرغم من قدم ظهور الديمقراطية إلا أن اتخاذها نموذجا ونظاما للحكم كان بطيئا ، وسار عبر مراحل زمنية عدة وصراع شعيب مرير لانتزاع الحقوق والخلاص من جور السلطة الحاكمة .. ” *
نحن في عصر الديمقراطيّة و الليبراليّة بكل أشكالهما . كل الأمم و الشعوب و التجمعات البشريّة ، في زوايا الأرض الأربع ، تسعى إلى الحياة الديمقراطيّة السياسيّة ، القائمة على مبادئ الحريّة الفرديّة بمفهومها الاجتماعي ، لا الفلسفي . غير أنّ واقع الكيانات البشريّة المتخلّفة يحول دون تجسيد الممارسة الديمقراطيّة السليمة . و تقف الأميّة المتفشية في أوساط المجتمعات المتخلّفة ، حجر عثرة ، و سدّا منيعا أمام كل محاولة لفهم الفكرة الديمقراطيّة ، و تجسيدها في الممارسات اليوميّة للفرد و الجماعة .
إنّ المجتمعات المتخلّفة ، الخاضعة لسيطرة الأفكار الميّتة و المميتة ، القابلة للاستبداد السياسي و الاجتماعي و الثيوقراطي ، لا حظ لها من الديمقراطيّة ، لإنّ أفرادها و جماعاتها لا تميّز بين الديمقراطيّة التي يسيّرها العقل السليم ، و تهذّبها الأخلاق الفاضلة و المشاعر الإنسانيّة ، و الديمقراطيّة التي تقودها الفوضى و تسوقها إلى النزوات الفرديّة المنبثقة من الغرائز الاندفاعيّة ، و اللذات الآنيّة .
و انطلاقا من هذه المعطيات السالفة الذكر ، وجب إعادة ترتيب الأوليات و الكليّات و الجزئيات . فقبل التفكير في تطبيق الديمقراطيّة ، وجب القضاء على الأميّة البسيطة و المركّبة . فالتعليم هو أولوية الأولويات ، و هو بمثابة الرأس من الجسد . إنّ انتهاج سياسة تعليميّة راشدة ، ذات مناهج هادفة ، و محتوى فعال و غايات محدّدة ، كفيلة بتهيئة المجتمع للممارسة الديمقراطيّة عن وعي و فهم و تبصّر . و بدون سياسة تعليميّة شاملة ، لا يمكن لأيّ مجتمع – مهما امتلك من العزائم و الثروات و الباطنة و الظاهرة – أن يجسّد السلوك الديمقراطي في البيت و الشارع و المؤسسات بأكملها . و السؤال ، الذي يجب أن يراود كل عاقل و أريب : لماذا تلجأ الأنظمة السياسيّة في المجتمعات المتخلّفة إلى تنظيم الانتخابات ( الاقتراعات ) الرئاسيّة و التشريعيّة ( البرلمانيّة ) و الانتخابات البلديّة و الولائية ، و تدعو المواطن الأمّي ، العاجز عن تهجيّة اسمه و كتابته ؟ أليس ذلك من باب التعميّة ، بل مثل ذلك كمثل من كلّف أعمى بحراسة بستان يانع الثمار و ناضج ، من غارات اللصوص ليلا . إنّ اعتماد مبدأ الأغلبيّة و الأقليّة في حساب نتائج الانتخابات في المجتمعات المتخلّفة ثقافيا و علميّا ، خطأ سياسيّ و استراتيجيّ فادح ، لا يعبّر ، بصدق عن الرأي العام في المجتمع . فعلى أيّ اساس يختار المواطن الأميّ – و هو الجاهل لحقوق المواطنة و واجباتها إزاء وطنه و شعبه – ممثّليه في المجالس ( المنتخبة ) ؟ هل ينتخب – و الانتخاب سلوك عقليّ ، لا عاطفيّ – الشخص أم البرنامج ؟ و من أنّى له القدرة و الذكاء كي يحسن الانتخاب و الاختيار و التمييز بين البرامج و المرشّحين ؟
إنّ المواطن الأمّي ، يدلي بصوته لصالح فلان أو علاّن ، و لكنّه لا ينتخب ، لأنّ العمليّة الانتخابيّة ، تتطلّب قسطا من المعرفة و القراءة و الكتابة و الإدراك و التمييز بين الغث و السمين ، كي تكتسب المصداقيّة ، و لا تتحوّل إلى ولاء عائليّ أو عشائريّ او قبليّ ، أو تمسي نوعا من العادات الاجتماعيّة النمطيّة ، التي يمارسها الفرد و الجماعة ، خارج دائرة الشعور و الوعي و المسؤوليّة و الحريّة .
إذن ، فالتعليم أولى و أسبق من الممارسة الديمقراطيّة . لأنّ هذه الأخيرة لن تثمر إلاّ الفوضى و اللامسؤولية ، في كنف شعب أمّي ، جاهل لحقوقه و واجباته الاجتماعيّة و السياسيّة و الأخلاقيّة . أمّا الذين يحاولون تطبيق النظام الديمقراطي في وسط اجتماعيّ أميّ و متخلّف ، فإنّ مثلهم كمثل حارث البحر أو زارع الريح .
إنّ تعليم مبادئ الديمقراطيّة السليمة و الراشدة ، تحتاج إلى ديمقراطيّة التعليم . إنّ للشعوب المتعلّمة القدرة العقليّة و النفسيّة على العيش في أجواء ديمقراطيّة خاليّة من الفوضى و الغوغائيّة . لأنها – ببساطة – تكونت لديها مَلَكَةَ الحريّة و المسؤوليّة .
إنّ التعلّم و التثقّف هو اللبنتان الأساسيّتان لأي نظام ديمقراطي ، و لهذا وجب على الشعب القراءة و الكتابة ، من خلال تطبيق إلزاميّة التمدرس و مجانيته و ديمقراطيته ، كفيل بتلقينه منهج ممارسته للحريّة و لأساليب التفكير الراشد ، قبل الديمقراطيّة . إنّ الديمقراطيّة في مجتمع تكبّله الأميّة ، هي ضرب من الفوضى و الانتحار البطيء . و على الفرد أن يتعلّم و يتثقف ، كي يدرك حقوقه و واجباته الاجتماعيّة و السياسيّة.