علي فضيل العربي يكتب | العقل قبل كل شيء

0

ورد في لغة العرب ، فعل ( عقل ) ، و هو فعل ثلاثيّ صحيح و مجرّد و لازم . حروفه ( ع ، ق ، ل ) . و تختلف مخارجها ؛ فالعين تخرج من وسط الحلق ، و القاف تخرج من بين حافتي اللسان . أما اللام فلهوية لخروجها من قرب اللهاة . و هي حروف صفاتها دالة على الشدّة و القوّة و الجهر . و مشتقاته عديدة ، و منها :

العَقْل : ما يقابل الغريزة التي لا اختيار لها. ومنه : الإنسان حيوان عاقل. وـ ما يكون به التفكير والاستدلال وتركيب التصورات والتصديقات. وـ ما به يتميز الحسن من القبيح ، والخير من الشر ، والحق من الباطل . وأيضا ( العاقول ، العقال ، العقلة ، العقول ، العقيلة ، المعتقل ، العاقل ، اعتقل ، عقّل ، تعاقل ..إلخ ) .
العقل قبل الحريّة و الدين . ففاقد العقل ، لا حريّة له ، كما أنّ من سمات العقل لزوم الحريّة له . فإذا سلبت من الإنسان الحريّة ، فقد عقله مبدأ التفكير و الاستدلال .
و من شروط حدوث التديّن و صحته ، توفّر العقل السليم . و قد قال القدماء ، العقل السليم في الجسم السليم ، و هذا الأخير لا يمكنه أداء وظائفه الفكريّة و المعرفيّة البيولوجيّة ، دون سلامة العقل من الأدواء المختلفة ، و اخطرها على الإطلاق ، داء الجنون ، و هو فقدان العقل .
وقد خلق تعالى آدم عليه السلام ، و زوده بنعمة العقل ، قبل أن يعلّمه الأسماء كلّها ، ثم أمر ذريّته بالقراءة و طلب العلم و إعمال العقل لتمييز الحق من الباطل ، و الخير من الشرّ . و إذا كان فلاسفة المنطق ، أنّ الإنسان ( حيوان ناطق ) ،
فالحيوان مصدر وصفة ، وعند المناطقة عبارة عن الجسم النامي الحساس المتحرك بالإرادة . بينا النطق خاص بالقوة العاقلة . كما عرّف علماء الاجتماع الإنسان بأنّه اجتماعيّ بطبعه ، و مدنيّ بفطرته . لا يمكنه العيش منفردا ، منعزلا ، وحيدا . لهذا السبب نشأت الجماعات و القبائل و المجتمعات البدائيّة و المعاصرة . قال تعالى : ( يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) 13 / سورة الحجرات .
و ما كان هذا التعارف ليحدث بين الناس ، و ما كانوا لينالوا شرف التقوى و الكرم ، لولا العقل . و قد خلق الله الإنسان أيضا في أحسن صورة ، و أعلى رتبة بين مخلوقاته . قال تعالى : ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) 4 / سورة التين . و ذلك بفضل ما وهبه من العقل .

إنّ العقل مقدّم على كل المخلوقات . و لم يجعل الله تعالى هذا الكنز الثمين في جسم الإنسان ، لكي يعبث به . فكلّ سلوك شائن ، ينمّ عن فلسفة عبثيّة . و ما الحرب القائمة اليوم بين روسيا و أوكرانيا إلّا دليل على واضح على الجنون . و كلّما اشتدّت المعارك ، ازداد عدد الضحايا من الجانبين ، و شعرت شعوب الأرض بالخوف و الفزع و الهلع ، من مغبّة انفلات سلوك المتحاربين من مربّع العقل الخيّر ، نحو مربّع الجنون و التهوّر . أليس التهديد باستعمال الأسلحة النوويّة في هذه الحرب المجنونة ، ضربا من الحنون ، و طريقا نحو الدمار الشامل و الفناء الكامل ؟

و ما كان الإنسان الاجتماعيّ ، الناطق ، العاقل ، في حاجة إلى صنع كل هذه الترسانة من الأسلحة النووية و الكيماويّة و الجرثوميّة و البيولوجيّة ، لو أحسن توظيف عقله ، و إنفاق وقته و بذل جهده ، و إظهار براعته و تميّزه و تفوّقه ، فيما يعود عليه بالنفع و الخير .

إنّ العقل المعاصر في حاجة ماسة إلى ترميم عميق ، بعدما استولت عليه الفلسفة السياسيّة التي تمجّد القوة خلال القرون ؛ التاسع عشر و العشرين و الواحد و العشرين . و من بين الفلاسفة الذين برّروا للحرب و العدوان ، الفيلسوف الألماني فريدريك نيتشه ( 1844 – 1900 ) . يقول الدكتور روبرت ويكس ، في نص منشور على (موسوعة ستانفورد للفلسفة ) ترجمة الكاتب عبدالله بن قعيّد في موقع ( حكمة ) :

” … وفي وقت لاحق ، خلال ثلاثينيات القرن العشرين ، تبنت النازية والفاشية الإيطالية جوانبَ من فكر نيتشه ، بتشجيع ولو جزئي من إليزابيت فورستر- نيتشه عبر ارتباطها بأدولف هتلر وبينيتو موسوليني . إذ كان من الممكن للشراح النازيين أنْ يجمعوا ، بشكل انتقائي للغاية ، مقاطعَ متفرقة من كتابات نيتشه التي يوحي تجاورها بتبرير الحرب والعدوان والهيمنة من أجل المجد القومي والعرقي ” .

و هكذا ، فقد ساهمت فلسفة نتيشه ، و مايكل والزر و هوبز و غيرهم ، في التبرير للحرب من أجل تحقيق المجد العرقي و القومي ، و السيطرة على ثروات الضعفاء ، دون أدنى اعتبار للقيّم الإنسانيّة الساميّة ، مثل الحريّة و الحق في الحياة و الأخوة الإنسانيّة و العدالة و روح التعايش السلمي .

و إذا لم تضع الحرب الروسيّة الأوكرانيّة أوزارها في القريب العاجل ، فإنّ مخاطرها أكبر ممّا نعتقد ونتصوّر . و لن تكون تلك المخاطر محدودة المكان و الزمان ، بل ستعمّ كوكبنا الأرضي ، و سوف تمتدّ آثارها الكارثيّة إلى الأجيال القادمة .

و لهذا ، وجب على من يدير دواليب هذه الحرب المجنونة ، أن يعقل و يعود إلى رشده ، و يعتقل نزواته الشيطانيّة ، و يتجرّد من أنانيته ، و يلتزم بقيّم الحياة النبيلة ، و يجعل السلم عقالا على رأسه ، ليجنّب البشريّة الطوفان الجهنّمي ، الذي لن يبقي و لن يذر …

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.