علي ماجد شبو يكتب | المسرح والاستيلاء الثقافي

0

ثمة ثقوب في هيكلية وأنظمة المجتمعات تتسلل من خلالها الثقافات والهويات، غير المتآلفة مع المجتمع الواسع، الى خارج أسوار تلك الهيكليات الاجتماعية، مما يُنشأ ذلك الإحساس المرير المُسمّى بالاغتراب الثقافي. الاغتراب شعور يتلبس معظم الناس بصور مختلفة، وبدرجات مختلفة، ويمس أيّاً من أفراد المجتمع، فقيراً كان أم غنياً، مثقفاً واعيا ومدركًا، أم بخلاف ذلك، ولكن بأعماق متغايرة في إدراك ذلك الاحساس. وعليه، فإن الاغتراب ينسحب من حالة الاحساس والشعور الإنساني الى مدارك الوعي والتفكّر، أي الى حالة المفهوم الذي يستوجب التوقف عنده، وفهم أسبابه، وإدراك نتائجه. فالاغتراب، في نهاية الامر، مفهوم فلسفي شائك تمّ تناوله، من أوجه عدّة، عبر تاريخ الفلسفة. وبقيَ هذا المفهوم يثير الأسئلة الجوهرية حول طبيعة الوجود الإنساني وحرية تحقيق الذات والهوية الثقافية. أما في سياق المسرح فإن العلاقة بينه وبين الاغتراب الثقافي تحمل دلالات وسمات ديناميكية متعددة ودقيقة، حيث إن المسرح يُجسّد بشكل حيّ لحظات زمنية من الحياة العامة، للأفراد والمجتمعات، تعكس مشاعر الاقصاء والمرارة والانسلاخ عن المحيط الإنساني. غير ان المسرح بحيويته، وبليونته، وبقوته على تجسير الفجوات قادر على أن يستجيب الى هكذا مشاعر وأحاسيس وأفكار، فضلا عن إمكانية أن يعرض خيارات من أساليب وحلول تمكّن من تفهم مسببات الاغتراب الثقافي والتعمق بمدلولاتها، من أجل تضييق الفجوة بين أحاسيس الاغتراب التي يعاني منها الفرد أو الجماعات وبين المجتمع الواسع المُنتج لهذا الاغتراب.
يتضح من ذلك بأن المسرح، عبر تجسيده لسرديات تراجيدية أو كوميدية مختلفة، يبرز كمنصة مثالية لطرح القضايا المتنوعة في مسار الاغتراب الثقافي، وإثارة التفكير النقدي حول مجمل القضايا الاجتماعية والثقافية المسببة له، والمفجّرة للوعي. فالمسرح يوفر الفضاء المحرّض لنقد، واستكشاف، وطرح الأسئلة حول ما هو قائم من معايير وقيم ثقافية، واجتماعية وأعراف، سواء في تفاصيل الحياة الاجتماعية اليومية، أم في أنظمة العمل، أم في هياكل السلطة والسياسة، أو في فضاءات الطموح والأمل والخيبات المتكررة. وسأستعرض لاحقاً، بشكل سريع، مفهوم وتنوع الاغتراب من خلال عشرة نصوص مسرحية عالمية.
الاستيلاء الثقافي في سياق المسرح يمكن أن يتضح من خلال تشكيل الشخصيات على المسرح، أو من خلال استخدام الأزياء التقليدية أو التاريخية أو من خلال تصوير الطقوس والممارسات الثقافية لمجتمعات أخرى دون دراسة وفهم عناصر التاريخ والثقافة اللذان أنتجا هذه الشخصيات أو هذه الطقوس والممارسات. هذا الانحراف في فهم ثقافة المجتمعات التي تدور أحداث المسرحية حولها تعزز الصور النمطية، وتهمّش عناصر الإصالة الثقافية، وتخلّ بالتوازن الثقافي والمجتمعي القائم، مما يؤدي الى تحريف وتهميش أو محو الثقافات التي يتم الاستيلاء عليها. مثال ذلك، الأزياء التي تستخدم في المسرح لتعبر عن حقبة تاريخية معينة، من مجتمع معين، دون فهم رمزية النقوش والألوان لتلك المجتمعات في تلك الحقب، بل وتُفسّر من منظور الأزمنة الحديثة. كذلك نرى المسرحيات التي كانت تتضمن شخصيات إفريقية سوداء، حيث كانت تقدم من قبل ممثلين تصبغ بشرتهم البيضاء لمحاكاة شخصية الافريقي الأسود، بما في ذلك شخصية عُطيل في مسرحية شكسبير، أو كما في المجتمعات المغلقة حيث نرى تشخيص الأدوار النسائية من قبل ممثلين ذكور مع المكياج الملائم للشخصية. وهكذا تتحول الشخصية الدرامية بخلفية كاريكاتورية ونمطية لا تحترم ثقافة الشخصية الافريقية السوداء، أو شخصية المرأة، فالأصالة هنا تتطلب أن يلعب هذا الدور ممثل من هذه الثقافة، أي ممثل أفريقي أسود، كما تلعب امرأة دور الشخصية المناسبة لها، لتعميق المصداقية الدرامية، ولإعطاء صوت للثقافات الممثلة بشكل مهمّش أو ناقص.
من المهم أيضاً الاعتراف بان الاصالة لا تعني التجانس في الثقافة الواحدة، بل العكس فهي تعني ثراء التنوع من مجموع عناصر كل ثقافة. أما الأصالة في المسرح فهي تعزيز أصوات المجتمعات المهمشة في العروض التي تشتمل درامياً على سرديات من هذا النوع، حيث إنه يمكن إبراز وجهات نظر متنوعة، من خلال هذه السرديات، متجنباً الغرق في الرمزية بهدف عرض الثقافات المغايرة والمختلفة على المسرح، بشكل واضح ودقيق ويحترم كل ما تشتمل عليه من عناصر. أما بخلاف ذلك فإن الإستيلاء الثقافي يُلغي أهمية المجتمعات المهمشة وتجاربها، ويعزز الاشكال النمطية الضارة بوجود الثقافات الأخرى. فالمسرح فضاء خطير، وقوي، وفاعل في مجال التفاهم الإنساني وتبادل الثقافات وتحدي ديناميكيات السلطة القائمة، لذلك فإن عمل المسرح يعكس دائماً آثاراً أخلاقية، خاصةً، حين يتصدى المسرح لمختلف القضايا من منظور ثقافي واسع الشمولية والأصالة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.