عماد الطيب يكتب | الثقافة والأدب في السودان

0

تتشكّل الثقافة والأدب في السودان ضمن حقل الصراع الطبقي، لا بوصفهما نشاطين رمزيين محايدين، بل كممارستين إيديولوجيتين تُسهمان إما في إعادة إنتاج علاقات الهيمنة أو في تفكيكها. فكل إنتاج رمزي – من القصيدة إلى الرواية – يعكس موقعاً من مواقع الصراع على الوعي، وكما يؤكد غرامشي، فإن الثقافة ليست مجالاً منفصلاً عن السياسة، بل إحدى الجبهات المركزية في معركة الهيمنة الطبقية.

تشكّل المشهد الثقافي السوداني الحديث في ظل المشروع الكولونيالي الذي لم يكن عسكرياً واقتصادياً فحسب، بل كان أيضاً مشروعاً ثقافياً هدفه إعادة تشكيل الذات المستعمَرة، وكما يحلل فانون، فإن المستعمِر يسعى دائماً إلى خلق صورة للمستعمَر تبرر استمرار الهيمنة عليه. وقد تجلّى هذا المشروع في السودان عبر محاولات ممنهجة لطمس التراث المحلي وتشويه الذاكرة الجمعية، بينما سعت الحركات الوطنية الناشئة إلى توظيف الأدب والفنون كأدوات للمقاومة والتحرر.

بعد الاستقلال، ورثت النخب الحاكمة جهاز الدولة الثقافي فحوّلته من أداة تحرر إلى أداة هيمنة جديدة، وكما يوضح ممداني، عملت الدولة ما بعد الكولونيالية على إعادة إنتاج علاقات القوة عبر تبني خطاب قومي شكلي بينما حافظت على البنى الأساسية للاستعمار. فتحوّلت المؤسسات الثقافية إلى أدوات لترويج إيديولوجيا الوحدة الوطنية الزائفة التي تخفي التناقضات الطبقية والجهوية الحقيقية.

يشكّل الحقل الأدبي السوداني نموذجاً حياً لهذا الصراع الإيديولوجي، فبينما مثل الطيب صالح صوت الهوية السودانية في مواجهة إشكاليات الحداثة، جاء محمد المكي إبراهيم ليعبّر عن صوت المهمشين والمقهورين، وهذه الكتابات، كما يرى لوكاش، ليست مجرد إبداعات فردية بل تعبيرات عن وعي طبقي يتشكّل في بوتقة التناقضات الاجتماعية.

أما أدب المرأة السودانية فقد مثل تحدياً مزدوجاً للأبوية الثقافية والاستغلال الطبقي، فكتابات ملكة الدار محمد أحمد في أربعينيات القرن الماضي، مروراً بزينب بليل وفاطمة السنوسي في السبعينيات، ووصولاً إلى بثينة خضر مكي ونجاة عثمان في الوقت الراهن، لم تكن مجرد “بوح ذاتي”، بل إعادة تعريف للذات من موقع المقاومة. وهذا التداخل بين القمع الجندري والاستغلال الطبقي يجد جذوره في ما أشارت إليه كولونتاي من أن تحرر المرأة لا ينفصل عن تحرر الطبقة العاملة.

ومع تصاعد التبعية الاقتصادية منذ ثمانينيات القرن الماضي، دخلت الثقافة السودانية طوراً جديداً من الاغتراب الرأسمالي، حيث شهد الحقل الثقافي تحولاً جذرياً مع تحوّل الإنتاج الثقافي إلى سلعة في سوق رأسمالي تابع. فأصبح تمويل المشاريع الثقافية، كما يحلل هارفي، خاضعاً لشروط المانحين الدوليين وأجنداتهم السياسية. وتحوّل المثقف العضوي، الذي كان يمثل ضمير الجماهير، إلى موظف في أجهزة الدولة أو منظمات المجتمع المدني الممولة من الخارج.

في ثورة ديسمبر، برزت اللجان الثقافية كأداة طليعية لإعادة تعريف الذات السودانية، حيث شكّلت نواة لوعي جديد يعارض خطاب “الثقافة الرسمية” للدولة. وتجلّى ذلك بوضوح في مناطق الهامش التي حوّلت الفضاءات العامة إلى منصات للإبداع الشعبي، فمن خلال الشعر الغنائي والغرافيتي والمسرح الشعبي، استطاعت الجماهير تحطيم الصور النمطية التي روّجتها أجهزة الدولة الإيديولوجية. هذه الأشكال التعبيرية، كما يرى رايموند وليامز، لم تكن مجرد وسائل إبداعية بل كانت أدوات لخلق وعي طبقي جديد.

من رحم هذا الصراع الطويل بين الهيمنة والمقاومة، تتبلور الحاجة إلى مشروع ثقافي تحرري. إن بناء مشروع ثقافي تحرري في السودان يتطلّب تفكيك البنى الإيديولوجية المهيمنة وإعادة تأسيس المؤسسات الثقافية على أسس ديمقراطية حقيقية، فالثقافة، في نهاية المطاف، ليست ترفاً فوقياً بل سلاحاً حاسماً في معركة الوعي الطبقي، وهي المعركة التي لا تكتمل الثورة بدونها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.