عماد يحيي عبيد يكتب | البرناسية.. قداسة الفن

0

في دورتها الأولى عام 1901منحت الأكاديمية السويدية جائزة نوبل للآداب لشاعر فرنسي شبه مغمور اسمه (رينيه سولى برودوم 1839-1907) بينما كان المنافس الأهم على هذه الجائزة أحد أهم الكتاب العالميين الروسي (ليو تولستوي 1828- 1910)، هذا الفوز أثار لغطا واستفز النخبة المثقفة عالميا، وعلى الفور بعد اعلان الجائزة تظاهر أكثر من أربعين أديبا وفنانا سويديا أمام مقر الجائزة منددين بقرار لجنة التحكيم ومنتصرين لتولستوي، ثم كتبوا له رسالة جماعية كاعتذار يبجلونه وينعون ما آلت إليه نتيجة الجائزة المجحفة.
في تقرير لجنة التحكيم التي فوّزت (برودوم) جاء: (تقديرًا لمجمل أعماله الشعرية التي تعبر عن تكوينه الخاص، ما يعطى دليلًا على المثالية النبيلة، والكمال الفني، ومزيجا نادرا من صفات القلب والعقل)، والحقيقة أن السبب الأساسي لتفويز (برودوم) هو ميل لجنة التحكيم إلى الأدب البرناسي، ولأن (برودوم) كان الشاعر المدلل لدى جماعة البرناسيين، فقد وقع الاختيار عليه في خطوة تعتبر من أولى ظواهر التحيز في منحى هذه الجائزة المثيرة.
في تلك الفترة كان المذهب البرناسي ما زال فتيا، فقد ظهر كحركة أدبية عام 1870 في فرنسا، كردة فعل وحركة مناهضة للمذهب الرومانسي أولا، وللحركة الذاتية والاشتراكية في الأدب ثانيا.
المذهب البرناسي أو ما اصطلح على تسميته مذهب الفن لأجل الفن (الفن للفن) أسسه الشاعران الفرنسيان (تيوفيل غوتيه 1811-1872) و (الكونت دي ليسيل 1818- 1894) اللذان روجا لهذا المذهب الذي يدعو إلى اعتبار الفن غاية في حد ذاته وإلى الامتناع عن استعماله وسيلة لعلاج القضايا الاجتماعية والسياسية، ومن تصريحات (تيوفيل غوتيه) قوله: “على الشاعر أن يرى الأشياء الإنسانية وأن يفكر فيها من خلال نظرته الخاصة دون أية مصلحة اجتماعية أو مذهبية”.
يعود سبب التسمية إلى جبل بارناس الذي يقع وسط اليونان، ووفقا للميثولوجيا التاريخية فإن هذا الجبل أسبغت عليه هالة التقديس لأن ربات الغناء الملهمات للشعراء والموسيقيين كنّ يسكنّه.
لقد ظهرت مقولة (الفن للفن) أول ما ظهرت على لسان الفيلسوف الفرنسي (فكتور كوزان 1792- 1867) في محاضرة ألقاها في السوربون عام 1818، أي قبل ظهور المذهب البرناسي، وتلقفها فيما بعد عراب البرناسية (تيوفييل غوتييه) معلنا غاية هذا المذهب بقوله: “الفن ليس وسيلة بل هو غاية، وكل فنان يهدف إلى ما سوى الجمال ليس بفنان”، ويرى (الكونت دي ليسيل) “عالم الجمال هو مجال الفن الوحيد، غايته في ذاته، وليس الجمال خادما للحق، لأن الجمال يحتوي على الحقيقة الإلهية والإنسانية”، فالفن لدى البرناسيين لا يحكم عليه من حيث الخير والشر ولا الصح والخطأ، وإنما يحكم عليه من حيث الجمال والقبح، وبعد ظهور المذهب البرناسي درج قول على ألسنة أربابه (الرومانسيون أنزلوا الشعر إلى الأرض، والبرناسيون أعادوه إلى قمة جبل بارناس بعيدا عن الأرض ومشكلاتها التافهة).
ظهرت هذه الحركة في فرنسا بجلاء بعد نشر ديوان شعري متسلسل يحمل عنوان (البرناسي المعاصر) عام 1871 تضمن قصائد مختلفة لشعراء هذا المذهب، منهم: (تيوفيل غوتيه والكونت دي ليسيل وورينيه سولي برودوم – السابق ذكرهم) ومعهم (خوسيه ماريا دي أي هريرديا 1803-1839) و(تيودور دي بانفيل 1823-1891) و(ألبرت ميرات 1840-1909)، كما حوى الديوان قصائد للشاعر (شارل بودلير 1828-1867) حيث انتقوا من أشعاره ما يتوائم مع الإنموذج الجمالي البرناسي واحتسبوه سدنة هذا المذهب عليهم، ربما لأنه نادى بالفوضى الجنسية والتلذذ بمباهج الدنيا.
قام هذا المذهب على إجلال الفن واعتباره الغاية القصوى لأي عمل إبداعي، فالفن غاية بحد ذاته وليس وسيلة للتعبير عن الآراء والمعتقدات، وتجلت الفكرة خصوصا في الشعر بجعله فنا موضوعيا غايته استخراج الجمال من مظاهر الطبيعة وإضفاءه على الحياة رافضا التقيد سلفا بأي فكر أو عقيدة أو أخلاق.
أهم القواعد والرؤى التي أعتمد عليها هذا المذهب كما يراها سدنته ترتكز على جعل الفن حالة امتاعية عالية تثير المشاعر وتلهب الأحاسيس ليرتقي الإنسان بذوقه إلى معالي الجمال، فالفن الجيد يحقق السعادة الإنسانية عن طريق الامتاع وليس التعليم، فالتعليم له علومه وسبله الأخرى، لذلك لابد من تحطيم القديم والموروث وبناء العالم الجديد الخالي من العقائد والأخلاق الكابحة للتطور الجمالي، فاهتم أنصاره بالأساليب المبتكرة والأشكال الجديدة والاعتناء بالديباجة والبيان الناصع المشرق وتجنب الركاكة والإسفاف وانتقاء الألفاظ والابتعاد عن الغلو في وصف المشاعر الإنسانية وتأوهاتها وتصنعها، فوجدوا في الشعر اليوناني القديم منهلهم الأصيل، فأهملوا المضامين التوجيهية والتربوية (التعليمية) متمسكين بمقولتهم الخالدة (إن الحياة تقليد للفن وليس العكس).

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.