عمرو نبيل يكتب | إعادة اختراع السياسة

0

في أوائل تسعينيات القرن الماضي صدر بالولايـات المتحـدة كتاب “إعـادة اختراع الحكومـة” الذي يدعو لإعادة هيكلة الحكومات لمواكبة مستجدات السـوق العالميـة وتكنولوجيـا المعلومـات لتصبح مسـتجيبة وموثـوق بهـا وقادرة على القيام بوظائفها وتلبية احتياجات المجتمعات، وقد وضع الرئيس الأمريكي بيل كلينتون هذا الكتاب موضع التنفيذ في أكبـر عمليـة إصـلاح حكومـي بالولايات المتحدة في القرن العشرين. هذا الطرح الذي جاء بأفكار غير مألوفة أحدثت ثورة في الإدارة الحكومية في العديد من دول العالم، تتمثل فلسفته الأساسية في أنه إذا كانت الحاجة أم الاختراع فإنه إذا لم يعد الاختراع قادرا على تلبية الحاجة فيتوجب علينا إعادة الاختراع لأنه مجرد وسيلة يمكن تغييرها لتحقيق الغاية منها.

وبإسقاط فلسفة هذا الطرح على ما أحدثته التغيرات الاقتصادية والتكنولوجية، منذ أوائل تسعينيات القرن الماضي إلى الآن، من آثار مجتمعية سلبية نتيجة غياب “المساواة” تلك الآثار التي زعزعت استقرار الدول وقوضت قدرتها على تحقيق التنمية لشعوبها، وما تبع ذلك من آثار سياسية ظهرت بوضوح في شكل ثورات عربية ونتائج انتخابية غربية كارثية، يؤكد أنه لم يعد كافيا مجرد “إعادة اختراع الحكومة” وأننا في أمس الحاجة لـ “إعادة اختراع السياسة” فالسياسة مجرد وسيلة لتحقيق “المصلحة العامة” بتوازن وعدالة ومساواة، وعلى مدى العقود الأخيرة يزداد فشل السياسة في تحقيق الصالح العام، حيث حققت الحركات والأحزاب غير التقليدية والقومية واليسارية واليمينة المتطرفة (كالفاشية والنازية) مؤخرا نجاحات غير مسبوقة، في الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا والمجر وإيطاليا والسويد والبرازيل، وجاء ذلك نتيجة لما كشفت عنه جائحة كوفيد 19 والحرب الأوكرانية من آثار مجتمعية سلبية بسبب غياب المساواة داخل المجتمعات.

وفي أواخر يناير الماضي أظهر استقصاء أجري في بريطانيا (أعرق الديمقراطيات) أن البريطانيين يزدادون تشاؤماً من سياسييهم ولا يثقون بالحكومة ويزدرون الساسة، ويرى ثلثي البريطانيين بلادهم بحاجة لنوع جديد تماماً من الأحزاب السياسية تنافس كلاً من “المحافظين” و”العمال” (أعرق الأحزاب) لأنهم يعتقدون أن عدم المساواة في بريطانيا تتزايد، وحذر الاستقصاء من أن فشل السياسيين في وضع رؤية محفزة للناس سيتسبب في صدمة مزلزلة وعواقب مدمرة. هذا التحذير السياسي أدركته الولايات المتحدة بعد انتخاب دونالد ترامب ولذلك جاء أول خطاب لوزير خارجية إدارة بايدن بعنوان “سياسة خارجية للشعب الأمريكي” والذي قال فيه ستحتاج سياساتنا للإجابة عن الكيفية التي ستنمي بها الطبقة الوسطى الأمريكية وتحقيق الاستفادة لجميع الأمريكيين وليس فقط لأولئك الذين يعمل الاقتصاد بالفعل من أجلهم.

وترتبط فكرة الصالح العام كجوهر وغاية للسياسة بـ “المستقبل” و”الأمل” في وطن أفضل، وفشل السياسة في كسب ثقة الشعب في مستقبل أفضل مدمر للتنمية والمجتمعات والدول، فلقد كانت أبرز المخاوف التي فجرت ثورة 25 يناير تتعلق بـ “التوريث” الذي يقتل الأمل في المستقبل، كما كانت أبرز المخاوف التي فجرت ثورة 30 يونيو تتعلق بتصريح الإخوان بأن حكمهم سيستمر لـ ” 500 سنة”. لقد ظلت السياسة المصرية لفترات طويلة متمحورة حول المصلحة العامة لأن غايتها الوطنية تمثلت في “تحرير الأرض” غير أنه بعد رفع علم مصر على أرض طابا لم تتبلور للسياسة المصرية بوصلة واضحة المعالم (رغم أن تاريخ مصر السياسي غني بنماذج: قوة المجتمع قبل محمد علي، قوة الدولة في عهده، قوة قطاع خاص وطني بلوره طلعت حرب، قوة قطاع عام في عهد ناصر) فمنذ تحرير أرض مصر والسياسة متمحورة حول “حزب الرئيس”، الذي لم يكن سوى جماعة مصالح تلتف حول السلطة لتحقيق مصالح خاصة تتعارض مع المصلحة العامة.

الإشكالية السياسية الحالية تتمثل في عدم قدرة “الثورات” ولا “الحركات والأحزاب المتطرفة” على تقديم بدائل واقعية قادرة على مواجهة التحديات الاقتصادية والتكنولوجية لتحقيق “المساواة” و”الصالح العام”، فهي لا تملك سوى شعارات أثبتت تجربة وصولها للسلطة عدم قدرتها على تحويلها لسياسات قابلة للتنفيذ لتلبية حاجة المجتمعات والشعوب، وهنا مكمن الخطر الذي تتطلب مواجهته “إعادة اختراع السياسة”.

مصر الآن أمامها فرصة سياسية تاريخية، فلا يوجد نموذج سياسي عالمي يدعي تفوقه أو قدرته على حل هذه الإشكاليات الاقتصادية والاجتماعية بل يجب علينا بلورة نموذجنا السياسي الوطني، والدولة المصرية وكافة القوى الوطنية تعترف بأنه لا يمكن مواجة التحديات الاقتصادية والمجتمعية الحالية إلا بتكاتف الجميع، ورئيس الجمهورية لا ينتمي لحزب سياسي تلتف حول سلطته المصالح الخاصة، بل هو الذي دعا كافة القوى الوطنية لحوار سياسي لتدشين جمهورية جديدة، وبالتالي فمن هذا الحوار السياسي يجب بدء عملية “إعادة اختراع سياسة الجمهورية الجديدة”.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.