عيبان محمد السامعي يكتب | سوسيولوجيا كرة القدم (2-3)

0

يشكّل الشباب, السواد الأعظم من جمهور المشجعين الذين وجدوا في كرة القدم المتنفس الوحيد ــ ربما ــ ليعبّروا عن ذواتهم وأشواقهم.
ويعاني هؤلاء الشباب من قصور النظرة الاجتماعية السائدة تجاههم, فالمجتمع ينظر إليهم باعتبارهم شباب فارغين, عديمي المسئولية, وينشغلون بأمور صغيرة لا قيمة لها.
وفي واقع الحال, فإن غالبية هؤلاء الشباب يعانون من الفقر, والبطالة, والاقصاء, والتهميش الاجتماعي, الأمر الذي يجعل من ظاهرة تشجيع كرة القدم حالة تنفيس, وشكل من أشكال التمرد الاجتماعي على الأوضاع السائدة.
تلك الأوضاع الناجمة عن التفاوت في الدخول, وفي توزيع الثروة, وسياسات الخصخصة, وتآكل الطبقة الوسطى, وتخلي الدولة عن المسئوليات الاجتماعية تجاه مواطنيها, وحرمانهم من الخدمات العامة والحقوق المواطنية كـ: الغذاء, والتعليم, والصحة, والسكن, والعمل المناسب, والأجر اللائق؛ فضلاً عن قمع السلطة واحتكارها للمجال العام, وسوء أداء الأحزاب السياسية, والسيطرة الأبوية (البطريركية), وقَدامة المعايير الاجتماعية السائدة.
إذن.. أصبحت كرة القدم ملاذاً لهؤلاء الشباب, خفيضو الصوت, الذين يكتوون بلهيب المعاناة اليومية, وصارت وسيلة لمقاومة هذه المعاناة ومحاولة الاستمرار في العيش.
وبعبارة أخرى هي شكل مبتكر وإبداعي من الوجود الاجتماعي المتمرد, حيث يُستقى الحس المتمرد من الجماعية, والعلاقات التضامنية, والإحساس بوجود روابط مشتركة بين الأفراد.
ويظهر الطابع المتمرد بشكل أكثر وضوحاً في ظاهرة تُعرف بـ “الألتراس”, وتنتشر في بعض البلدان العربية: مصر والجزائر على وجه التحديد. وهي جماعات منظّمة تضّم مشجعي الفرق الرياضية, وتقوم على قواعد محددة في التشجيع, ولديها هتافات, وملابس, ومصطلحات, وأعلام, ورموز, وأغانٍ ذات نمط خاص تطلق أثناء المباريات الكروية, وتستخدم الصافرات والآلات الموسيقية الصاخبة, وأشهرها آلة فوفوزيلا (Vuvuzela ) لتضفي على المباريات الكروية أجواء من الزّخم والحماس والحيوية.
ويرى آصف بيات أن ظاهرة الألتراس تمثل نموذجاً من نماذج “اللاحركات الاجتماعية”, تلك التي تقوم على محاولة الجماهير الشعبية امتلاك المجال العام وكسر الحظر السلطوي عليه بأساليب مبتكرة. ولهذا شكّلت هاجساً قضّ مضجع السلطات؛ بسبب طابعها الجماعي والتنظيمي, وقدرتها على حشد أعداد كبيرة من الناس إلى مدارج ملاعب كرة القدم أثناء المباريات الكروية, وخروج تلك الجماهير المحتشدة إلى الشوارع والساحات العامة للاحتفال بفوز الفريق الرياضي المفضّل.
هذا الخروج المحتشد إلى الشارع ــ وإن كان مؤقتاً واحتفالياً ــ إلا أنه يمثّل مصدر قلق للسلطات القمعية؛ لأنه من المحتمل أن يتطور مع الأيام ويتخذ شكلاً مطلبياً وسياسياً. وهذا ما حدث بالفعل, فمع موجة ثورات العالم العربي عام 2011م, انخرط أعضاء الألتراس في الثورة الشعبية المصرية, بل كانوا من طلائعها, مُجسدين في ذلك تطلُّعاً وتشوّقاً للتغيير ولحياةٍ أفضل.

ويمكن رصد مظاهر سوسيولوجية وسلوكية أخرى لعملية تشجيع كرة القدم, فالفضاء الذي توفره عملية التشجيع, يمنح الأفراد قدرة خلاقة على إعادة صياغة ذواتهم وبناء عوالم جديدة, حيث تمتزج أحلامهم وطموحاتهم في فضاء العالم الكروي, ويجمعهم الحب والحماس والانتماء لفرقهم الرياضية المتنافسة.
إن تشجيع الأفراد وانتمائهم لفريق رياضي ما يقوم على الطوعية والاختيار الحر, فلا توجد سلطة تفرض عليهم خيارات معينة, لذا يكون الانتماء حقيقياً, ويملؤه الحماس والدافعية.
وتظهر الروح الحماسية في تشجيع الفريق الرياضي المفضّل بأجلى صورها, وتبلغ أحياناً درجة التعصب, حيث يحمل مشجعو الفريق الرياضي على عاتقهم الدفاع عن فريقهم المفضَّل في كلّ الأحوال, في المكسب وفي الخسارة, ويستخدمون لغة خاصة بهم, ومع أغيارهم من جمهور فريق رياضي منافس.
إن العلاقة التي تربط بين مشجعي فريق رياضي وأغيارهم من مشجعي فريق رياضي منافس تتسم بالتوتر, وتتصاعد وتيرتها أحياناً, وتتطور إلى اشتباك كلامي وتراشق متبادل بالألفاظ والعبارات التهكُّميّة والساخرة على منصات التواصل الاجتماعي, وفي مدارج الملاعب, وفي الأماكن المخصصة للفُرجة كالاستراحات والمقاهي, وفي الشارع, وفي الأماكن العامة.
ليس ذلك وحسب, بل تتحول حماسة التشجيع ــ في أوقاتٍ ما ــ إلى حالة هياج وأعمال شغب, لاسيما في المباريات الكروية التي تجري بين فريقين رياضيين بينهما إرث تنافسي محتدم, أو على سبيل المثال: ظاهرة التنافس بين الأهلي والزمالك في الحالة المصرية, أو التنافس بين بعض الأندية الأوروبية مثل: برشلونة وريال مدريد والتي أصبحت عالمية الطابع. هذه المظاهر هي انعكاس لتأزُّم الأوضاع الاجتماعية ووصولها إلى درجة كبيرة من التأزم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.