عيبان محمد السامعي يكتب | سوسيولوجيا كرة القدم (3-3)

0

قديماً, في عصر الدولة العبودية, ارتبطت الرياضة بالنشاط والجهد العضلي الذي يبذله العبيد لإمتاع الأسياد مقابل الحصول على الاحتياجات اليومية.
وفي العصر الحديث, أصبحت الرياضة ــ ومنها كرة القدم ــ وسيلة للترفيه الإنساني, ومجالاً للتنفيس من ضغوط الحياة المعاصرة وإيقاعها السريع.
ومع ذلك, فإن الفكرة الرائجة التي تفيد بأن النظم الأوليغارشية والمستبدة سعت إلى توظيف كرة القدم من أجل إلهاء الناس عن القضايا الأساسية تظل فكرة صحيحة نسبياً, لاسيما إذا لاحظنا أن كرة القدم تجتذب في الغالب جيل الشباب, وتعمل على تفريغهم نفسياً, وتسهم في بناء عوازل جيلية بينهم وبين غيرهم من الأجيال, وهو ما يعني تجزئة المصائر الاجتماعية المشتركة للجماعات والأفراد.
يقول إدواردو غاليانو: “كلما تحولت هذه الرياضة إلى صناعة, كان يجري استبعاد الجمال الذي يتولد من متعة اللعب لمجرد اللعب”.
تتحول كرة القدم من نشاط بدني ووسيلة متعة وترفيه إلى سلعة تجارية لتعظيم الأرباح؛ بفعل احتكار الشركات الكبرى لها, بدءاً من الصناعات الرياضية: الملابس والأدوات الرياضية, إلى احتكار حق البث الفضائي للمباريات الكروية, وإرغام المشجعين على دفع أموال باهظة لشراء تذاكر حضور مباريات كرة القدم, أو شراء بطائق الاشتراك التلفزيوني حتى يتمكنوا من مشاهدة المباريات عبر البث التلفزيوني المباشر.
يمارس البث التلفزيوني لمباريات كرة القدم عملية تخدير للمتابعين, فاستخدام تقنيات تصوير متطورة, ونقل مشاهد حية لمنافسة تجري على أرضية خضراء اللون, وفي أجواء حماسية, وأصوات صاخبة تنطلق من مدارج الملعب, يرافقها صوت المُعلِّق الذي تتماوج نبرات صوته مع إيقاعات المشجعين وركلات اللاعبين, تأسر ألباب المتابعين وتصل بهم إلى قمة النشوة؛ لذا لا يتورعون عن دفع الأموال لإشباع حاجاتهم في المشاهدة والمتعة.
إن التوظيف التجاري لكرة القدم لا يقف عند هذا الحد, بل تحول لاعب كرة القدم من بطل رياضي يؤشر إلى معانٍ إنسانية وأخلاقية رفيعة, ورمز لمناهضة العنصرية كما جسَّدها ــ مثلاً ــ اللاعب البرازيلي المعروف بيليه[5] إلى نجم (Star) تحيط به الكاميرات من كل اتجاه, وتتداول أخباره الصحف والمجلات والمواقع الالكترونية, ويقلّده المراهقون في قصات شعره, وفي ملابسه, وحركاته, وتتنافس الأندية الرياضية على شرائه وإبرام عقود عمل احتكارية معه بمبالغ باهظة تصل إلى عشرات الملايين من الدولارات, فيما تسعى الشركات الرأسمالية إلى كسبه للقيام بإعلانات ترويجية لسلعها ومنتجاتها.
وفي مستوى آخر, توظّف النّظُّم الحاكمة في الدول النامية كرة القدم لأغراض دعائية, على سبيل المثال: رأينا كيف يوظّف نظام السيسي تأهُّل المنتخب المصري إلى كأس العالم ويقدّمه على أنه منجز من منجزات نظامه.
وعلى الرغم من كل ذلك, لا تزال كرة القدم تلعب دوراً هاماً في تكريس التعايش, والتقارب الانساني, حيث إنّ أماكن الفُرجة والتشجيع تمثل نقطة التقاء وتقارب بين المشجعين, ومن خلالها يكونون فضاء مشترك إنساني.
ختاماً.. يتطلب الأمر تحرير الرياضة, ومنها كرة القدم, من الاستغلال التجاري, وتعزيز مضامينها الإنسانية كوسيلة للتقارب بين الشعوب, ولإحلال السلام, وسيادة الأخلاق السامية وقيم التنافس الشريف والروح الرياضية.
وتحريرها ــ أيضاً ــ من الهيمنة الذكورية, فعلى الرغم من وجود كرة قدم للسيدات, وتقام منافسات دولية لها؛ إلا أنها لا تحظَ بنفس المستوى من الشهرة والانتشار الجماهيري مثل كرة القدم للرجال. وهذا يعكس مظهراً من مظاهر الهيمنة الذكورية التي لا تزال سائدة في عالمنا المعاصر.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.