غادة محفوظ تكتب | التحرر من خطاب الخوف
تبدو المهمة الأكبر للرئيس عبد الفتاح السيسي هي حرصه على حث كل الهيئات ومنصات التفكير على إنتاج خطاب ديني مغاير، مختلف وجذاب، خطاب قادر على مواجهة كل الأفكار والأطروحات القديمة. خطاب لا يرتكن على النصوص والمرويات بقدر ارتكانه على إنجازات حقيقية على الأرض تعيد تقديم الخطاب الديني باعتباره خطاب فاعل قادر على أحداث تغييرات غير مسبوقة في بنية الغالبية العظمي من المهمشين والمصنفين تحت خط الكفاف.
هذا الخطاب الواقعي الذي يحرص على وجود حالة من الرضى بين الجماهير التي كانت الجماعات القديمة تستغل حاجات افراده وتقدم لهم الدعم العيني والنقد وبعض الخدمات الصحية والتعليمية في مقابل الحصول على أصواتهم في الانتخابات النيابية المتلاحقة. فإذا بالخطاب الجديد يحول هذه الخدمات الموسمية الي واقع حضاري متكامل وملموس. هذا الواقع تحولت فيه العشوائيات الي أبراج شاهقة وملاعب ودور عبادة ومراكز ثقافية وخدمات تعليمية وصحيه آخذة في النمو.. وبالتالي أصبح لدي هذه الحشود المهمشة قديما واقع جديد لا يكتفي بتقديم خدمات محدودة وملاحم كلامية لها علاقة وثيقة بالآخرة. بل صار هناك طرح عملي ملموس ومعاش ولغة مرتبطة بالمستقبل.. بعد أن كان هذا المستقبل البعيد مجرد حلم بعيد المنال قديما.
يظل السؤال المركزي: هل لا يزال للخطاب الإخواني القديم نفس بريقه وقدرته على اجتذاب الجماهير وحشدهم لصالح توجهه وبرنامجه الخاص الذي يعلي من قيمة الجماعة على حساب قيمة الوطن. ويرى في الحدود الوطنية مجرد حفنة تراب عفنة، وإن مصر في إطار الأممية الدينية يمكن أن يحكمها خليفة تركي أو شيخ معمم حجازي. الإجابة: لا بالتأكيد. والحقيقة أن القيادة السياسية نجحت فيما فشل فيه السابقون ممن كانوا يتعاملون مع جماعة الإخوان وفق أجندة مصالح مشتركة واتفاقات خلفية وترتيبات سرية تسمح بوجود قوي للجماعة في المجلس النيابي. فضلا عن استمرار مؤسساتهم الصحية والتعليمية والاقتصادية في العمل غالبًا بلا ملاحقات، على أن تظل الجماعة مجرد فصيل معارض لا يطمح في السلطة ولا يسعي إليها. وقد مُنحوا الفرصة من أجل تصحيح مسارهم وأن يتحولوا إلى جماعة وطنية وأن يجلسوا للحوار مع كل القوي المدنية إلا أنهم ركبوا رؤوسهم وظنوا أنهم من القوة بمكان لا تستطيع معها قدرات المعارضين لهم أن تزحزحها. وكانت تلك الغطرسة وخضوع رئيسهم لتوجيهات مكتب الإرشاد سببًا رئيسًا في خروجهم من حالة الإجماع الوطني وعدم التعامل معهم باعتباره جزء من المكون العام للدولة المصرية، وأصبحوا يمثلون حالة من النشاز السياسي والاجتماعي والحضاري. حشود رابعة خير مثال، وبات أمر التخلص من فصيل غير وطني رغبة شعبية عارمة أكدتها حشود ٣٠ يونيو ٢٠١٣.
مع الوقت وعندما بدأ يتكشف لملايين المصريين، بما فيهم المحايدون وغير المنشغلين بالسياسة بمفهومها العام أن الجماعة كان لديها أكثر من خطاب مراوغ وأن أدبياتهم كانت تظهر خلاف ما تبطن، وان أحاديث قادتهم عن العدالة الاجتماعية كان خطابا للاستهلاك المحلي يدحضه واقع اخر مختلف.
ولعل ما يحدث في تركيا الان بلد المهجر الرئيسي لفلول الاخوان يكشف حجم المأساة التي يعيشها الالاف من شباب الجماعة الذين نجحوا في الهرب من مصر أملا في حياة أفضل، فإذا بهم يعيشون في ظل أوضاع معيشية سيئة في الوقت الذي ترفل فيه النخبة من قيادات الجماعة في المساكن الفاخرة ويباهي بعض المتنطعين بأنهم باتوا يركبون أحدث السيارات ويأكلون أشهى الطعام. ويرى إن ذلك رزقًا قد ساقه الله إليهم وإن من يتندرون أو يحتجون من سائر أعضاء الجماعة هناك ليسوا إلا مجموعة من الحاقدين ليس من حقهم الاحتجاج.
يبقى القول بأننا بصدد صياغة خطاب جديد يعيد اكتشاف المناطق العميقة في واقعنا الديني والحضاري. خطاب يعمل على تضفير النصوص واضحة الدلالة مع تطبيقات الواقع بكل الانجازات الحضارية. هذه الثنائية كفيلة بإعادة حرث التربة المصرية التي تيبست طوال السنوات الماضية ولكنها باتت الان قادرة على إعادة الأثمار. ويبقى البحث عما يجب أن يتم خلال السنوات القليلة القادمة بحاجه إلى مقال جديد أكثر تفصيلًا.