فهد المضحكي يكتب | ما أحوجنا إلى قيم التنوير

0

اعتاد الذين يناهضون قيم التنوير في فكرنا العربي وصف المتنورين في ثقافتنا بنعت الناقلين لفكر لا علاقة له بتاريخنا ولا بثقافتنا ومجتمعنا. وقد تأكد في العقود الأخيرة من القرن الماضي – ويزداد تأكدًا اليوم وسط ما نعانيه في مجتمعاتنا من تنامي تيارات التطرف الديني بمختلف ألوانها. إن حاجة المجتمعات العربية إلى مبادئ الأنوار وقيم التنوير تتطلبها معركة الإصلاح الثقافي والإصلاح الديني في حاضرنا. وفي رأي الكاتب والباحث الأكاديمي المغربي كمال عبداللطيف، المنشور في أحد أعداد مجلة «الفيصل» أن الأمر لا يتعلق بعملية نسخ لتجربة معينة في التاريخ، تجربة حصلت في مجتمعات مختلفة اختلافًا كليًا عن مجتمعاتنا، إنه يتعلق أساسًا بتجربتنا الذاتية في التاريخ. وحاجتنا إلى التنوير اليوم تمليها وقائع ومعطيات عينية قائمة في مجتمعاتنا وثقافتنا. أما النموذج الأخر، الذي حصل في التاريخ في سياقات أخرى وداخل مجتمعات أخرى، فيمكن أن نستفيد من رصيده الرمزي والتاريخي، التي لا تستبعد ولا تنفي تشابه بعض معطيات التاريخ، وإمكانية الاستعانة بموضوع مواجهة قضاياه بالاستفادة من دروسه. إن تزايد مظاهر التطرف في مجتمعاتنا – وقد أسهمت جملة من العوامل في توليدها- تجعلنا نتصور أن معارك مواجهتها ينبغي أن تكون متنوعة بتنوع الأدوار التي تمارسها اليوم في واقعنا. وكلما زاد عنف هذه المظاهر في محيطنا الاجتماعي والسياسي، ازدادت الحاجة إلى تطوير آليات ووسائل المواجهة، بهدف توسيع مساحات التنوير والتسامح، والانفتاح في ثقافتنا ومجتمعنا، وهو الأمر الذي يقلص من أدوار التطرف والمغالاة وأدوار بعض الفقهاء الذين يمنحون أنفسهم امتيازات الكهنوت، وامتيازات مانحي صكوك الغفران، وذلك بإصدارهم فتاوى التكفير والجهاد ومخاصمة العالم.

 

إن تنامي مشكل إسلام التطرف في واقعنا يطرح مطلب المواجهة بالتنوير والنقد، حيث لا يمكن أن تحول جماعات معينة التجربة الروحية في الإسلام إلى تجربة مغلقة. إن التجربة الروحية في الإسلام تتجاوز الأحكام النمطية المحفوظة في تراث لا يعدو أن يكون جزءًا من تاريخ لم ينتهِ. لهذا السبب يرى أن عودة المحفوظات التقليدية بالصورة التي تتمظهر بها اليوم في ثقافتنا وفي مجالنا التربوي والسياسي، يعود إلى عدم قدرتنا على إنجاز ما يسعف بتطوبر نظرتنا للدين والثقافة والسياسة في مجتمعاتنا. إن فشل الإصلاح الديني والإصلاح التربوي في فكرنا يعد من بين العوامل التي كرست- وتكرس- مثل هذه العودات العنيفة إلى المعطيات العتيقة في تراثنا وثقافتنا. لم نتمكن من ترسيخ قيم الاجتهاد، ولم نبن الفكر الإسلامي المنفتح والقادر على تركيب تصورات جديدة للعالم، تتيح لنا استيعاب مقدمات وأصول الحياة الجديدة في عصرنا. ولعلّ أخطر ما فعلته التيارات المعادية لقيم العصر وفي قلبها قيم التنوير والتقدم في فكرنا المعاصر، هو تعميمها لجملة من الدعاوى الرامية إلى استبعاد إمكانية تصالح ذواتنا التاريخية مع العالم، مستندة في ذلك إلى تصورات ومبادئ لا علاقة بينها وبين الإسلام في جدليته التاريخية الحية، وقد شكل – كما نعرف في تاريخنا – مهمازًا للحركة التاريخية المنتصرة لقيم الأزمنة التي واكبته خلال عصورنا الوسطى. وهنا لا بد من توضيح أن قيم الإسلام كما تبلورت في التاريخ، لا علاقة بينها وبين ما هو شائع من أفكار أقل ما يمكن أن توصف به هو غربتها عن الإنسان. فالإسلام في تاريخه النصي والحدثي أكبر من الأحكام والفتاوى المحافظة والمترددة، إنه في روحه العامة عبارة عن اجتهاد. وضمن هذا الأفق، يشير الباحث إلى أن الإسلام ينفر من قيم الموت والقتل والتخريب والانغلاق والتزمت، ليحرص بدل كل ذلك على إشاعة قيم الحياة، قيم توسيع مساحة مكانة الإنسان في التاريخ.

 

وكما أشار، إن الأمر في دفاعنا عن قيم التنوير في العالم العربي لا يتعلق بعملية نسخ أو نقل لتجربة تمت في التاريخ، والأنوار لا تزال اليوم مطلبًا كونيًا. وقيم عصر الأنوار التي نشأت في سياق تاريخي محدد في القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوروبا، تتعرض لامتحانات عميقة في سياق تاريخها المحلي، وسياقات تاريخها الكوني، وذلك بحكم الطابع العام لمبادئها، وبحكم تشابه تجارب البشر في التاريخ، وتشابه عوالمهم الروحية والمادية وعوالمهم التاريخية في كثير من مظاهرها وتجلياتها. ترتبط حاجتنا إلى التنوير باسئلة واقعنا، كما ترتبط بسؤال الاجتهاد في فكرنا وفي كيفيات تعاملنا مع قيمنا الروحية. واذا كنا نعرف أن المبدأ الأكبر الذي وجه فكر الأنوار يتمثل في الدفاع عن عدم قصور الإنسان، والسعي لإبراز قدرته على تعقل ذاته ومصيره بهدف فك مغالق ومجاهل الكون والحياة، لا يمكن لأحد أن يجادل في أهمية هذا المبدأ، الذي يمنح العقل البشري مكان الصدارة في العالم، ويمنح الإنسان مسؤولية صناعة حاضره ومستقبله. وتاريخ البشرية يقدم الدليل الأكبر على قيمة هذا المبدأ، ولهذا السبب نحن معنيون بإشاعة القيم التي تتضمن وتستوعب الاعتزاز بالإنسان والإعلاء من مكانته ورسالته في الوجود. ولعلنا نزداد تشبثا بهذا المبدأ عندما نعاين في حاضرنا كثيرًا من مظاهر تحقير الإنسان والتنكيل به، فندرك بصورة أفضل أهمية الانخراط في تعزيز قيم التنوير في حياتنا، وندرك في الٱن نفسه أن حاجتنا اليوم لهذه القيم لا تمليها شروط خارجية، ولا تمليها إرادة نقل تكتفي بنسخ الجاهز، بل إن حاجتنا الفعلية لهذه القيم تحددها بكثير من القوة شروط حياتنا الواقعية والفعلية، حيث يصبح توسيع فضاء العقل والنقد والتنوير مجالاً للمعاناة والتوتر والجهد الذاتي الخلاق، في عمليات بناء القيم والمبادئ التي تتيح لنا الخروج من مأزق موصول بإرث تاريخي لم نتمكن بعد من تشريحه ونقده تمهيدا لإعادة بنائه بتجاوزه.

 

نسي كثيرٌ من الذين يتحدثون اليوم عن إخفاق مشروع التنوير في فكرنا، أن المأثرة الكبرى هي لرواد الإصلاح الذين عملوا على غرس قيم العقل في فكرنا الإصلاحي، ونسي هؤلاء أن مهمة تركيب فكر التنوير في ثقافتنا لم تكن مسألة سهلة خالصة، بل إنها كانت منذ بداياتها الأولى أشبه ما تكون بعملية في المواجهة، مواجهة سقف في النظر واللغة، ومواجهة تاريخ من الاستبداد، وتاريخ من الهيمنة النصية. لهذا اختلطت وتداخلت كثير من عناصر مهمتهم، رغم كل الجهود المضنية التي بذلوا في باب دعم وتعزيز منطق العقلانية ولغتها في ثقافتنا. ينبغي ألا نغفل هنا التأكيد على أننا لا نتصور سهولة المعركة، ذلك أن الإصلاح ليس وصفة سحرية منقذة من شرور عالم نحن صانعوه، إن الطريق مفتوح على مشروع بذل جهود وتضحيات ومنازلات كبرى في مجالات عديدة، بهدف تعويد الذات على مواجهة أسئلة التاريخ والحرب والإصلاح، تعويد الذات على المواجهة بالتضحيات للانتصار على أعباء التاريخ.

 

وبناءً عليه، معركة التنوير في بلداننا معركة شاملة ومركبة، إنها معركة في الفكر وفي السياسة والمجتمع والتاريخ، وكل إغفال لمجموع عناصرها في تكاملها وتقاطعها وتداخلها، يقلص من إمكانية الإنجاز الذي نصبوا اليه. ولهذا السبب، يشكل مشروع التنوير البؤرة الناظمة والجامعة لأسئلة اللحظة التاريخية الراهنة في مجتمعاتنا.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.