قصي الصافي يكتب | الهوية الفردية في العصر الرقمي (1-2)

0

من طبيعة الانسان أنه يتطلع الى شئء من التميز، يزداد ثقة بذاته عندما يطري الآخرون خصاله الحسنة، ويشعر بالندم اذا ما بدر منه ما يلام عليه ويقلل من شأنه. التميز يمثل جوهر هويتك الفردية، شعورك بانك مختلف عن الآخر وشعورك بانك تتسم بصفات مميزة لك يمنحك هويتك الخاصة، ولا يعني هذا ان هوية المرء شعور ذاتي محض، وإلا لما اشتقت من الضمير ( هو) وليس من الضمير (أنا). الهوية الفردية لا معنى لها خارج التفاعل مع الجماعة، دون ان يعني ذلك بان الجماعة تفرض او تتدخل قسراً في رسم ملامح هويتك الفردية، وانما هويتك تتشكل عبر علاقة مركبة بين الأنا والآخر، فانت تصنعها عبر الآخرين، صفاتك، أفكارك، قدراتك المعرفية والمهنية أو العلمية، نشاطاتك في المجتمع، مواقفك ومجمل سلوكياتك تنعكس لتعود عليك على شكل تقييم جمعي يعطي شرعية لأحساسك بالتفرد النسبي عن الآخرين، كما انك تجدد هويتك الفرديه عبر .التفاعل معهم، فالهويه ليست ساكنه بل هي في حركه وتجدد دائم مع الزمن

الليبرالية الجديدة، وباستثمار هيمنتها على الاعلام بكل اشكاله، تعمل على عزل الفرد عن الجماعه عبر ترسيخ الفردانيه، خاصه في مجتمعات الاطراف – على اعتبارها فتوحات جديده لها-، والفردانية في خطاب الليبرالية الجديدة ليست دعوة للحريه والاستقلال النسبي للفرد عن الجماعه، وانما ترسيخ لمفهوم الحريه المطلقه والاستقلال المطلق وانعزال الفرد في كهف الذات. لقد شاعت في الفضاء الالكتروني مقتضبات هلامية المعنى على غرار (كن كما انت ولا تابه للاخرين) او (اذا احسست ان خطواتك تتناغم مع خطى الجماعه فتاكد انك على خطأ وانك سائر مع القطيع)، أو ترديد مقولة سارتر بعد إفراغها من محتواها الفلسفي ( الآخرون هم الجحيم) وما الى ذلك من مقتضبات ترتدي البسة الحكمة الزائفة. الفردانية بصيغتها الليبرالية الجديدة تموضع في كهف الذات بكل رغباتها ونزواتها ونزعاتها وتكريس للأنانية والذاتوية، بهدف استبدال المواطن بكائن اقتصادي مستهلك، وخاصة في مجتمعات الاطراف من اجل اقتحام اسواقها واستثمارها، و لهذا ارتباط وثيق في تصنيع هوية افتراضية زائفة، وترسيخ المفهوم الجديد للهوية بمعزل عن الجماعة، المفهوم الذي يجري تسويقه وتسويغه بنشاط حثيث في الاوساط المتعولمة. الهوية الفردية الأصيلة مشروع بناء دائم التجدد من خلال التواصل عبر شبكة من العلاقات الاجتماعية والاحداث والمواقف، باختصار عبر ممارسة الحياة في الوسط الاجتماعي للفرد، والهوية المكتسبة من الوسط الاجتماعي الحقيقي هوية حقيقية راسخة، بيد أن الرسوخ هنا لايعني السكونية وانما التماسك والديمومة، على عكس .الهوية الرقمية التي تفتقر للاستقرار والتماسك.

الهويات الإفتراضية تعوزها الاصالة والواقعية لانها تنتمي الى الواقع الفائق بتعبير الفيلسوف الفرنسي جان بورديار الذي يرى أن الإعلام التقليدي سابقًا ما كان ليقدم لنا الواقع كما هو، بل هو يعرض صورة مستنسخة عنه، ومع ذلك فان النسخة المصورة تبقى محتفظة بنوع من العلاقة مع الصورة الاصل، الا ان الاعلام الرقمي اليوم – بفعل التطور الهائل لتكنولوجيا الاتصالات- يصنع لنا واقعًا بديلًا متكاملًا يعتمد الصورة والرمز واللغة والتشبيه والمحاكاة، أنه الواقع الفائق hyper reality، وهذا الواقع البديل المتخيل لا يزيح الواقع الحقيقي فقط بل يميته ويرسله الى مقبرة النسيان، وهو لا يقتصر على الدعايات التجارية والترويج للاستهلاك المادي، بل يقتحم مسرح السياسة والعلاقات الإجتماعية والفكر وكل مفاصل الحياة.

الهويات الافتراضية في ظل الواقع الفائق هويات وهمية متخيلة، فقد منحت وسائل التواصل الاجتماعي الفرد حرية شبه مطلقة لبناء بروفايله الخاص، والعمل على مشروع بناء هويته الافتراضية بنفسه، فهو حر في فبركة سيرته المهنية والسياسية والاجتماعية، يصرح، يتنمر، يحابي ويحابى، يحلل ويقيم في كل المجالات، وفي اغلب الاحيان دون رصيد معرفي .او موهبة كافية.

الاعلام الرقمي المعولم  بامكانه على سبيل المثال أن يصنع لشخصيات سياسية -أبرز ما في هويتها الحقيقية الخرف أو الحماقه- هويات افتراضية يظهرون فيها كقادة وسياسيين محنكين، وبهذا يحوزون على حب وتأييد شرائح واسعه من المجتمع، شرائح مغيبة تعيش هي أيضًا أوهام الواقع الفائق، خاصة أن لعقل الإنسان طبيعة مرنة تجعله عرضة لإعادة تشكيله عبر التأثر بالصورة والرمز والتشبيه والمحاكاة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.