كلكامش نبيل يكتب | اللغة الموحدة أكبر محددات الهوية القومية (1-2)

0

بينما تعاني المنطقة من تراجع حضاري كبير ومشاكل اقتصادية وبيئية وسياسية، وحتى وجودية في بعض الدول المحورية، أجد أن الكثيرين يتركون كل هذا ويغرقون في نقاشات الهوية ويبحثون يائسين عن حلول ماضوية – بينما يتهمون الإسلاميين بالماضوية – تتعلق بهوية المنطقة ولغتها وتاريخها، وكأن إحياء لغة قديمة أو استخدام لهجة محلية بدل الفصحى هو الحل لمشاكل البطالة وندرة المياه والتصحر.
قرأتُ صباح اليوم تعليقًا لصديقٍ مقرب يقارن فيه بين المعلقين الرياضين العرب والأوروبيين، وقال أن العرب غير حياديين ويظهرون محاباة للفرق العربية الأخرى، وتطرق لموضوع الحماسة والصوت العالي، فعلقتُ بأن اللغة مهمة في تكوين شعور الصلة، لأنك تتفاهم بسهولة بلغةٍ تتحدثها في حياتك اليومية وبذلك تسهل عليك بناء الجسور والتفاهم مع بقية الناطقين بها، بل والشعور بمشاعرهم وجدانيا. قال الصديق أنه يتفق مع ذلك وأنه يلاحظ ذات الشيء في المعلقين الإسبان فيما يتعلق بفرق أميركا اللاتينية.
وفي المساء، صادفتُ منشورًا لصديق عزيز وأستاذ جامعي تحدث فيه عن نقاشٍ بين طفليه، وكلاهما دون العاشرة من العمر، شجّع فيه ابنه المغرب لأنه فريقٌ عربي، في حين قالت ابنته، الأصغر سنًا، أنها لا تشجعهم لأن العراقيين ليسوا عربًا. الغريب أن الصديق قال لي ذات مرة أنه من أسرة عربية بالفعل وبعض أفراد الأسرة الأبعد لا يزالون يعيشون الحياة العربية التقليدية في غرب العراق، ولكن أبناءه لا يشعرون بهذا اليوم. في الواقع، قد لا يعرف بعض العراقيين أنهم عرب في عيون المغاربة، وفي مصر، سيقف السوري والعراقي واللبناني والمغربي في طابور الدول العربية عند التقديم للحصول على إذن الإقامة، وفي خارج الدول العربية، لن يكون الجميع سوى عربًا في عيون الأوروبيين والآسيويين وغيرهم من سكان كل بقاع الأرض الأخرى، لأن العامل هنا هو اللغة فقط، وهو عامل حقيقي في مسألة الهوية.
بالفعل، أعتقد أن اللغة أهم عامل في تشكيل الهوية، لأنها تمنح الشخص أيضًا، وبدون أن يدري، منظورًا معينًا عن الحياة، فلا علاقة للهوية بالجينات ولا النقاشات الدائرة في مجموعات تحليل الحمض النووي الصادرة عن شركات تجارية تبحث عن زبائن مهووسين بالأصول القديمة، في عالم يدّعي أن النسب المباشر ومعرفة والديك ليس بالأمر المهم. تنقاضات العصر الحديث لا نهاية لها في الواقع، لكن اللغة هي الهوية الحيّة لأي شعب.

بهذا الصدد، سأترجم ما قرأته قبل أيام في كتاب للمستشرق، وربما المستعرب البريطاني، تيم ماكنتوش-سميث عن اللغة والقومية وقوة الشعر، وقد تحدث فيه عن يوهان غوتفريد هيردر (1744-1803) وهو كاتب وشاعر وفيلسوف وناقد ولاهوتي ألماني، وذكر ما سأترجمه كما يلي:

(تحمل اللغة أيضًا إمكانية إحساس عميق بالوحدة. فقد عرف هيردر، أحد مؤسسي النظريات القومية الأوروبية الحديثة، قوة الشعر. حيث كتب في عام 1772: “الشاعر هو خالق الأمة [الشعب Volk] المحيط به؛ هو من يمنحهم عالمًا يروه ويمسك أرواحهم في يده ليقودهم نحو ذلك العالم”. وفي أوروبا التي عاصرها هيردر، كان مثل هذا العالم لا يزال جديدًا: ففي بعض مناطق فرنسا في ذلك الوقت، على سبيل المثال، كان “سيرُك في أي اتجاه ليوم واحد يفقدك القدرة على التفاهم اللغوي ، وكان تحقيق مثل أعلى للغة وطنية موحدة بعيدًا عن التحقيق. وليس الأمر كذلك في العالم العربي. وقد كان رينولد نيكلسون، الذي فهم الأمر أكثر من غيره، محقًا في قوله إن الشعر جعل العرب “أمة أخلاقيًا وروحيًا قبل محمد بزمن طويل”. لا أحد بالطبع يتكلم لغة الشعراء في الحياة الواقعية. لكن “الأمة” كانت مثالًا شعريًا، واقعًا فقط في الخطابة. وقد كانت كذلك على الدوام).

وهكذا سبق سكان الشرق الأوسط، أو العالم العربي، غيرهم في إيجاد لغة توحدهم جميعًا، وليس وجود اللهجات بمشكلة أبدًا لأن الوضع – وأقصد إزدواجية اللغة بين الفصحى والمحكية – كان هكذا على الدوام ومنذ أقدم العصور في منطقتنا، وليس وجود العربية الفصحى واللهجات بشيءٍ جديد على الإطلاق. فحتى الأكدية ضمّت العديد من اللهجات، وكان الأموريون أو العموريّون يتحدثون لهجة أخرى ولهم أسماء مختلفة ولكنهم كتبوا بالأكدية في المدونات الرسمية، فكانت، تماما كالعربية، بمثابة لغة فصحى لا تمثل لغة الحياة اليومية للجميع، وربما لا أحد.

الأمر كذلك بالنسبة للهجات المحلية اليوم، فاللهجة المصرية هي لهجة القاهرة ولكن أغلب المصريين في الصعيد يتحدثون لهجاتٍ أخرى، وفي الشام لا سبيل لحصر تنوع اللهجات حتى في بلادٍ صغيرة مثل لبنان وفلسطين، وكذلك الحال في العراق وشمال أفريقيا. في كل بلد، اللهجة الرئيسية هي لهجة العاصمة، وهكذا تكونت لغات أوروبا، فما الفرنسية إلا لهجة باريس التي فُرضت سياسيا على بقية الفرنسيين في عام 1539 للميلاد، وتغيرت اللغة بشكل جذري بعد الثورة الفرنسية في عام 1789 ميلادية (أي أن هذه الصيغة عمرها أقل من 233 عامًا)، وكذلك الحال مع الألمانية بعد توحيدها على يد بسمارك (حيث أعلنت اللغة بشكلها الموحد المعياري عام 1901، وكانت قد شُكّلت في الأصل في القرن الرابع الميلادي على يد أسقف الغوط الغربيين أولفيلاس الذي وضع الأبجدية الجرمانية بالاعتماد على اللاتينية واليونانية لاخراج نسخة غوطية من الكتاب المقدس)، والإيطالية بعد توحيد البلاد على يد جوزيبي غاريبالدي (حيث كانت الإيطالية العامية اللاتينية في القرن الثالث وتضم 20 لهجة مختلفة وتوحدت اللغة عام 1861 لتنتشر لهجة التوسكانيين المتعلمين كلغة في سائر البلاد، أي أن عمر اللغة المعيارية حوالي 161 عاما). على العكس، لقد سبق العرب غيرهم في إيجاد لهجة موحدة للتواصل، منذ أكثر من 1500 عام، وهذا ما يُحسب لهم.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.