في مشهد مهيب استعرض خلاله المصريون تاريخهم وحضارتهم الأقدم، أحتفل أمس كل المصريين والعالم كله بافتتاح المتحف المصري الكبير، هذا الصرح الضخم الذي يقع على مساحة تقارب نصف مليون متر مربع بالقرب من أهرامات الجيزة، ويضم أكثر من مئة ألف قطعة أثرية، بينها المجموعة الكاملة للملك المصري توت عنخ آمون التي تُعرض لأول مرة مجتمعة، إلى جانب تمثال الملك رمسيس والمسلة المعلقة. ليشكل بذلك أكبر متحف أثري في العالم مخصص لحضارة واحدة “الحضارة المصرية القديمة”. والذي بلغت تكلفته نحو مليار دولار تقريباً، بتمويل من الحكومة المصرية وقروض يابانية ودعم دولي، وشراكات مع القطاع الخاص المصري في تجربة تؤكد على نجاح مشاركة القطاع الخاص في المشروعات القومية. كما يُعد المتحف المصري الكبير مشروع “القرن” بالنسبة لمجتمع الآثار العالمي، وقد وصفته مجلة ناشيونال جيوجرافيك بأنه أهم مشروع ثقافي عالمي.
إن افتتاح المتحف المصري الكبير هو استكمال لخطة تعظيم الاستثمار الثقافي في مصر، والذي لم يعد رفاهية أو ترفاً حضارياً، بل أصبح أحد أعمدة التنمية الحديثة، لما له من أثر اقتصادي واجتماعي وتعليمي عميق. والمقصود بالاستثمار الثقافي هو توجيه الموارد المالية والبشرية والتقنية نحو تنمية القطاعات الثقافية كالمتاحف والمواقع الأثرية والفنون والتراث اللامادي. وهو ليس مجرد إنفاق على الثقافة، بل استثمار استراتيجي يخلق عوائد اقتصادية واجتماعية طويلة المدى. وهو ما أكدت عليه تقارير اليونسكو، والتي أشارت إلى أن القطاع الثقافي والإبداعي يساهم بنحو 3% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ما يجعله أحد المحركات الأساسية للاقتصاد المعاصر.
من الناحية الاقتصادية، يولد الاستثمار الثقافي إيرادات مباشرة وغير مباشرة، حيث تشير تقديرات البنك الدولي إلى أن كل دولار يُستثمر في التراث الثقافي يدر ما بين أربعة إلى ست دولارات من العوائد الاقتصادية عبر السياحة والخدمات المرتبطة بها كالفنادق والنقل والحرف اليدوية. أما من الناحية الاجتماعية، فهو يرسخ الهوية الوطنية ويعزز التماسك بين فئات المجتمع، خاصة في دولة مثل مصر بما تملكه من حضارة وتاريخ طويل ومشروع وطني ممتد لآلاف السنين وتنوع مجتمعي مستقر، فضلاً عن مساهمته في مكافحة الفقر من خلال خلق فرص عمل للحرفيين والعاملين في المجال السياحي والمجالات المرتبطة به. كما يمتد أثره إلى المجال التعليمي، حيث تتحول المتاحف والمراكز الثقافية إلى منصات للبحث العلمي والتوعية التاريخية والبيئية، وأيضاً في المجال الفني عبر إتاحة التصوير الفني داخل تلك المواقع والمتاحف الأثرية بما يساهم في الأرشفة التاريخية لتلك المواقع والبلدان والحضارات، وأيضاً من خلال تعزيز الريادة الثقافية عالمياً، فضلاً عن مساهمة الاستثمار الثقافي في تحقيق أهداف التنمية المستدامة، لا سيما الهدف الحادي عشر المتعلق بالمدن والمجتمعات المستدامة.
يُتوقع أن يجذب المتحف المصري الكبير بين خمسة إلى عشرة مليون زائر سنوياً، محققاً إيرادات قد تصل إلى نصف مليار دولار من التذاكر والخدمات المرافقة له فقط، فضلاً عن آلاف الوظائف التي وُفرت في قطاعات البناء والترميم والسياحة والفندقة والطيران وغيرها. وما سيولده من توسع استثماري في قطاع السياحة والخدمات، بالإضافة إلى تسليط الضوء على التراث المصري القديم وتعزيز مكانة محافظة الجيزة كمركز سياحي عالمي من خلال موقعه بجوار الأهرامات.
ومن الناحية التعليمية يوفر المتحف مراكز بحثية ومعارض تفاعلية تعتمد على تقنيات الواقع الافتراضي والذكاء الاصطناعي، ليصبح منصة للتعلم والثقافة على مستوى عالمي. وهو ما يؤكد على أن الاستثمار في الثقافة يمكن أن يكون محركاً للتنمية الشاملة.
ولا يقتصر هذا التوجه على مصر وحدها، فالعالم شهد نماذج مشابهة تؤكد أن الثقافة يمكن أن تعيد تشكيل الاقتصادات والمدن. فقد أحدث متحف غوغنهايم بيلباو في أسبانيا ثورة في التنمية الحضرية عندما حوّل المدينة الصناعية المتدهورة إلى وجهة فنية وسياحية تستقطب أكثر من مليون زائر سنوياً وتضيف نحو 400 مليون يورو للاقتصاد المحلي، فيما عُرف بـ”تأثير بيلباو”.
وفي الولايات المتحدة، أسهم المتحف الوطني للفنون الأفريقية بواشنطن منذ افتتاحه عام 2016 في إثراء النقاش حول الهوية والتنوع، محتفياً بالتراث الأفريقي الأمريكي وجاذباً ملايين الزوار، بينما كان له أثر اقتصادي واضح في دعم قطاع السياحة المحلي. أما متحف أورسي في باريس، فقد قدم نموذجاً آخر لكيفية تحويل البنى التاريخية إلى موارد تنموية مستدامة، إذ تحولت محطة قطار قديمة إلى متحف يجذب أكثر من أربعة ملايين زائر سنوياً ويشكل ركيزة أساسية في اقتصاد السياحة الفرنسي.
تُظهر هذه التجارب مجتمعة أن الاستثمار الثقافي ليس رفاهية بل ضرورة تنموية، تدمج بين الاقتصاد والمعرفة والهوية. فهو استثمار في الإنسان قبل أي شيء، في قدرته على الإبداع والابتكار وصون التراث. إن المستقبل يتطلب من الدول خاصة النامية منها، أن تتوسع في هذا النوع من الاستثمار وتبني عليه استراتيجيات طويلة المدى تقوم على الشراكات الدولية والتقنيات الحديثة وتكريس مفهوم الاستدامة، لتصبح الثقافة أداة فاعلة في مواجهة تحديات العولمة وتغير المناخ، وركيزة من ركائز الازدهار الإنساني الشامل ورسالة سلام كتلك التي أرسلتها مصر أمس خلال افتتاح المتحف المصري الكبير.