مؤمن سليم يكتب | الحبس الاحتياطي بين القانون والمجتمع

0

يُعد الحبس الاحتياطي أحد أبرز الإشكاليات القانونية والسياسية في كافة المجتمعات، وذلك لكونه يتعارض مع مبدأ “المتهم برئ حتي تثبت إدانته” حيث يتم تطبيق الحبس الاحتياطي أثناء التحقيق والمحاكمة وقبل إثبات الإدانة، وبالمخالفة لما هو مُستقر عليه بأن افتراض براءة المتهم وصون الحرية الشخصية من كل عدوان عليها أصلان كفلتهما كافة الدساتير، وعلى الرغم من هذه الإعتراضات “النظرية”  إلا أنه لا يمكن إنكار أهمية وضرورة هذا الإجراء في بعض الحالات لحماية التحقيق والأدلة، وأحيانًا للحفاظ على حياة المتهم أو المجني عليه، إلا أن محل الخلاف الرئيسي هو كيفية تطبيقه بالشكل الذي يوازن بين مصلحة التحقيق والعدالة و مصلحة المتهم وصون حريته وحقوقه.

فإنحراف التطبيق العملي عن غاية المشرع من منح سلطة التحقيق والقضاء حق إصدار قرار بحبس متهم “مؤقتًا” لأهداف محددة إذا ما توافرت أسبابها، خلق من هذا الإجراء الوقائي المؤقت عقوبة، فمن غير المعقول تصور أن هناك تحقيق أو محاكمة يستمران أكثر من عامان مع إستمرار حبس المتهم، ما أضحي أن هذا الإجراء أصبح يمثل انتهاكًا واضحًا لمفهوم العدالة، وليس أحد وسائل تطبيقها.

والواقع أن نصوص قانون الإجراءات الجنائية المتعلقة بمواد الحبس الإحتياطي لا تمثل المشكلة الرئيسية في قضية ضبط وتنظيم الحبس الإحتياطي، وإنما هي أحد عناصر أزمة مفهوم العدالة، حيث نُعاني كمجتمع من نقص حاد في قيم العدالة وارتباطها بالحريات العامة وما نشأ عن هذا النقص من خلل في نظرية التجريم بشكل عام.

المعني السائد للحرية هو الانحلال والإنحراف (السيبان بالعامية)، واستنادًا لهذا المعني المغلوط يتم الإنتقاص من قيم العدالة وتنحرف نظرية التجريم، فالتجريم وهو جزء من نظرية التأثيم ” أي إضفاء صفة الأثم على سلوك ما “والتأثيم إما أن يكون ديني، أو قانوني، ويختلف التأثيم بين المصدران في كون الأول جزاؤه الوخز الداخلي للضمير والعقاب في الاخرة، بينما جزاء الثاني يتمثل في قهر مادى تقوم به الدولة بوصفها التنظيم القانوني للجماعة، إلا أن الثقافة العامة أفرزت مصدرًا ثالث وهو تأثيم المجتمع وهو خليط بين الديني والقانوني، ويزيد عليهم بعض المفاهيم البربرية التي لم تتوقف محاولات زرعها داخل هذا المجتمع صاحب الحضارة والتاريخ الطويل.

وتأثيم المجتمع واستنادًا لمفهوم الحرية المغلوط يمنح المرأة النصيب الأكبر في توافر ركني الخطأ والمسئولية عن الجرائم، كما أنه يتغاضى ويتصالح بشكل ما أو بأخر مع جرائم السرقة والرشوة والفساد، ويتشدد في جرائم (الشرف)، وهنا تجدر الإشارة إلى أن المفهوم القانوني للجرائم المخلة بالشرف وهى أحد الإشكاليات القانونية والمجتمعية أيضًا، كون أن المشرع لم يعطى تعريف واضح وجامع لماهية الجرائم المخلة بالشرف على الرغم من أنه وضع لها جزاء، وهو الحرمان من مباشرة الحقوق السياسية، وتقلد المناصب القيادية، والوظائف الحكومية، وعلى الرغم من تصدي القضاء المصري لتحديد ماهية تلك الجرائم وقد أورد من ضمنها جرائم الأعتداء على المال مثل السرقة، الرشوة، الاختلاس، التزوير، إلى جانب جرائم الاعتداء على النفس، وهنا يظهر التباين بين التأثيم الاجتماعي والقانوني، فالثقافة العامة تفهم وتختصر جرائم الشرف في الجرائم المتعلقة بالجنس سواء بشكل رضائي أو عن غير رضا. كما أن هناك فكر إجتماعي أيضًا بدا منتشرًا بكثرة  خلال السنوات القليلة الماضية بأن المتهم وفقًا لهذا “التأثيم الاجتماعي”، لا يستحق الدفاع عنه، ولا مرحلة المحاكمة، وهذا الفكر الأكثر خطرًا حيث إنه يهدر قيمة العدالة والحياة، ويتجاهل عمدًا القاعدة والمادة الدستورية المتواترة التي تقضي بأن “المتهم برئ حتى تثبت ادانته” وكفالة حقه في الدفاع عن نفسه، وبالتالي فغالبية المجتمع لا يتعاطي مع قضية الحبس الإحتياطي بالشكل الذي يرى في تلك الممارسة إساءة استعمال للسلطة، وإنتقاص من حرية أحد أفراده.

إن إشكالية الحبس الإحتياطي من الناحية التشريعية يمكن حلها عبر التوافق على، تحديد الجرائم والحالات التي يجوز معها لسلطة التحقيق حبس المتهم احتياطيًا، مع التزام مُصدر القرار بتسببيه لكل حالة دون نماذج التسبيب العامة، وتخفيض المدد “الغير منطقية” في جواز حبس المتهم احتياطيًا لمدة عامان، وفي بعض الأحيان يمكن تجاوز تلك المدة “بشكل قانوني”، كما أنه لابد وبما أننا نتحول لميزانية البرامج والإداء فمن الضروري النص على التعويض المادي للمحبوس إحتياطيًا الذى يتم تبرئته، إلى جانب التعويض الأدبي الغير مطبق وفق المادة 312 مكرر من قانون الإجراءات الجنائية، فضلًا عن ضرورة الإفصاح عن عدد المحبوسين احتياطيًا خلال السنوات الماضية، وفي أية جرائم، وهل تم إدانتهم أم برائتهم؟ حتى يتسنى لنا وضع رؤية قانونية سليمة ومستدامة وليست حالة ظرفية، فمن غير المعقول أن يتم تعديل نصوص قانونية خاصة التي تمس حريات الأفراد دون حوار مجتمعي موسع.

إن أحد الوظائف الرئيسية للقانون هي تقويم السلوك العام، فإذا كانت النصوص القانونية يتم التحايل عليها أو تُنفذ بشكل يخالف فلسفتها والهدف منها، فإنه هنا لابد من المجتمع أن يكون هو الحامي والرادع لأي اعتداء على تلك النصوص، فإذا كان المجتمع هو المُعتدى على تلك النصوص فلا مناص.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.