منذ أن خطّ أفلاطون “الجمهورية”، والفكر السياسي يتطور بوصفه استجابة فلسفية للسؤال الجوهري، كيف نحكم الناس؟ عبر القرون، وُلدت أيديولوجيات كبرى مثل الليبرالية، والاشتراكية، والشيوعية، والقومية، والمحافظة، وغيرها، لتحاول تقديم إجابات منظمة حول السلطة، والحرية، والعدالة، والمساواة. لكننا اليوم، في عالم يتجاوز الإيديولوجيا نسبياً، نعيش ما يمكن تسميته بـ”فراغ الفلسفة السياسية”، حيث تهيمن الأدوات على الأهداف، والتكنوقراط على المفكرين، والمصالح على المبادئ.
لم تتوقف الفلسفة، بل ما حدث هو أنها فقدت مركزيتها في التأثير على السياسات العامة، وتراجعت أمام سيطرة العلوم التقنية، والاقتصاد، والذكاء الاصطناعي، والنماذج الإدارية، وعلى الرغم من ذلك ما زال الفلاسفة يكتبون، بل هناك اتجاهات فلسفية معاصرة نشطة جدًا (كفلسفة التقنية، وفلسفة البيئة، والعدالة العالمية، وما بعد الإنسانية)، لكن هذه الكتابات لا تُترجم إلى مشاريع سياسية كبرى، ولا تُحرّك الجماهير، كما كانت تفعل الليبرالية أو الشيوعية في الماضي.
لا يمكن القول أن ما نعيشه غيابًا للفلسفة السياسية، بل نهاية الشكل التقليدي لها كأيديولوجيا كُلية، أي لم تعد هناك مشاريع فكرية ضخمة تعد الناس بالخلاص الجماعي كما في القرن العشرين، فقد تحولت الأفكار الفلسفية المعاصرة إلى تحليلات جزئية ومعالجات متخصصة، مثل الحديث عن رأسمالية المراقبة أو الذكاء الاصطناعي السياسي.
إلا أن تلك المساهمات لا تُنتج حركات سياسية شاملة، بل تبقى غالبًا في نطاق الأكاديميا أو النخبة المثقفة.
حيث يشهد العصر الحالي إما البراجماتية التقنية (التكنوقراط الذين يحكمون بالأرقام)، أو الشعبوية العاطفية التي ترفض الفكر المعقّد أصلًا. في هذا السياق، الفلسفة تجد نفسها مهمشة لأن العالم يطالب بالحلول الفورية لا بالتأملات النظرية، ولأن السياسة أصبحت تفضّل “ما يُقنع الناخب” لا “ما يُقنع العقل”.
هناك بالفعل ازدهار لفلسفة الأخلاق، وفلسفة الذكاء الاصطناعي، وفلسفة العقل، وفلسفة البيئة، لكن هذا لا يعني أن هناك “مشروعًا فلسفيًا سياسيًا جامعًا” يعيد تعريف العقد الاجتماعي أو العدالة أو السيادة. لم تتوقف الفلسفة لكنها فقدت سلطتها في تشكيل المشروع السياسي العالمي، ولم تمت الفلسفة السياسية لكنها أصبحت هامشية في مقابل التقنية والاقتصاد والشعبوية.
ويمكن القول أن الأزمة ليست في الإنتاج الفلسفي، بل في الطلب السياسي والاجتماعي عليه، فقد عاشت الأيديولوجيات السياسية الكلاسيكية أزمنتها الذهبية في القرنين التاسع عشر والعشرين. الليبرالية مثلًا، انطلقت من فلسفة التنوير، وتطورت مع الثورة الصناعية لتدافع عن حرية الفرد والسوق. أما الاشتراكية والشيوعية، فجاءتا كرد على الرأسمالية في معالجة الفقر واللامساواة، وبلغتا ذروتهما في النصف الأول من القرن العشرين مع صعود الاتحاد السوفيتي. القومية بدورها كانت قوة جبارة في مواجهة الإحتلال وصياغة الدول الحديثة.
وقد تميزت هذه الأيديولوجيات بأنها كانت كلية، تفسر العالم وتقدم رؤية شاملة لمستقبل الإنسان. وقد غذّت هذه الرؤى الحركات السياسية، وأثّرت في التشريعات، والأنظمة الاقتصادية، وحتى في توازنات الحرب والسلام. إلا أن تراجعت مع انهيار الأتحاد السوفيتي عام 1991، فيما سماه فرانسيس فوكوياما “نهاية التاريخ”، أي انتصار الليبرالية الغربية وغياب أي بديل جاد لها. على الرغم من تراجعه لاحقًا عن أن التاريخ لم “ينتهِ” كما تخيّل، وأن العالم دخل مرحلة جديدة تتسم بصراع على الهوية، وعودة الاستبداد، وتحديات للنظام الليبرالي من الداخل والخارج. لكن ما تلا ذلك لم يكن ازدهارًا للفكر الليبرالي، بل انحدارًا تدريجيًا في إنتاج الفلسفة السياسية نفسها.
وعوضًا عن أن تتطور الليبرالية لمواكبة العصر الرقمي، أو أن تنهض أيديولوجيا جديدة تحلّ محل الاشتراكية، دخل العالم في حالة من البراجماتية المعمّمة: صناع القرار يبحثون عن ما “يعمل”، لا ما “ينبغي”، والناس يفكرون في الوظائف لا في المعاني، والأنظمة تحكم بآليات الإدارة لا بمبادئ السياسة.
ونتيجة لذلك أصبحت الرأسمالية مجرد نظام واقع، لا نظام مُبرر. تقلّص دور النقاش حول العدالة التوزيعية، أو دور الدولة، أو حدود السوق، ليحل محله خطاب تقني عن التضخم وأسعار الفائدة. ورغم التقدم التكنولوجي الهائل، ظلّت الفجوات الاقتصادية تتسع، دون مشروع فلسفي يعالج الخلل الجوهري في توزيع الثروة والقوة.
لم تعد السياسة المعاصرة نتاج صراع بين أفكار متنافسة، بل بين أشخاص وشعارات. صعود الشعبوية في أمريكا وأوروبا وآسيا يعكس فراغ المعنى، حيث تُستبدل البرامج بالأعداء، وتُختزل القيادة في الكاريزما أو الاستقطاب. الأحزاب التي كانت تمثل طبقات أو مبادئ، أصبحت أدوات انتخابية بلا جوهر.
ونتيجة غياب فلسفة سياسية تقود العلاقات الدولية، أصبح العالم أقرب إلى حالة اللاسياسة. لا توجد اليوم نظرية دولية مقنعة للسلام أو التعايش، لم تنجح الليبرالية في تصدير الديمقراطية، والاشتراكية فقدت شرعيتها، والقومية تحولت إلى أدوات انكفاء وعنف. لذلك نشهد صراعات بلا أفق، من أوكرانيا إلى غزة، حيث يغيب مشروع السلام لأن الفاعلين لا يمتلكون رؤية تتجاوز التوازنات اللحظية.
لم تنته الأسئلة السياسية الكبرى، بل أصبحت أكثر إلحاحًا، كيف نتعامل مع الذكاء الاصطناعي في الحكم؟ من يملك البيانات؟ ما العدالة في عصر ما بعد الدولة القومية؟ كيف نعيد توزيع الثروة في اقتصاد لا يتطلب العمل البشري كما في السابق؟ هذه الأسئلة تتطلب إجابات فلسفية، لا محض سياسات إدارية.
إحياء الفلسفة السياسية لا يعني العودة إلى أيديولوجيات القرن العشرين، بل يعني خلق أطر جديدة للفهم، تجمع بين القيم الإنسانية والأدوات المعاصرة، وتعيد تعريف الغاية من السلطة والتنظيم المجتمعي في زمن ما بعد الحداثة.
إن توقف الفلسفة السياسية هو أحد أخطر أوجه الأزمة التي يعيشها العالم المعاصر. الأيديولوجيات ماتت أو تشظت، والحركات أصبحت بلا روح، والمجتمعات تُقاد بلا بوصلة. وإذا لم نستعد الفلسفة السياسية كأداة فهم وكمصدر شرعية، سنبقى أسرى الحاضر التقني والاضطراب الجيوسياسي. المستقبل لا يُصنع بالأرقام وحدها، بل بالأفكار.