مؤمن سليم يكتب| الوزير الافتراضي

0

مازال التوسع السريع في استخدامات الذكاء الاصطناعي يخترق كافة المجالات، وعلى الرغم من محاولات إستيعاب المجتمعات والأفراد والحكومات لماهية الذكاء الاصطناعي وكيفية استخدامه وتقنينه والتعامل معه، وأيضاً محاولات المجتمع القانوني والحكومي لتنظيمه إلا أن إنتشار استخدامات الذكاء الاصطناعي أسرع من محاولات تنظيمه.
ولقد شاهدنا جميعاً الاستعانة بالذكاء الاصطناعي في البحث والإدارة والتحليل والاقتصاد والتقاضي والصحة والتعليم وغيرها من الأنشطة المدنية، بالإضافة إلى الأنشطة العسكرية والتي برزت على مسرح عمليات الشرق الأوسط بشكل واضح خلال العام الماضي، ومن قبلها خلال الحرب الروسية الأوكرانية.
ورغم التأثير المباشر لأستخدامات الذكاء الاصطناعي على الأنظمة السياسية، إلا أنها لم تستطع أن تباشر العمل السياسي بشكل واضح ومباشر، إلى أن أعلنت ألبانيا خلال شهر سبتمبر الجاري عن خطوة غير مسبوقة في عالم الحكم الرقمي والنظم السياسية، وهو تعيين وزير افتراضي للمشتريات العامة يعتمد على الذكاء الاصطناعي، باسم “دييلا” والتي تعني (الشمس) باللغة اللبانية، ومهمة هذا الوزير “الافتراضي” والبسيطة في ظاهرها هي الإشراف على المناقصات الحكومية وضمان الشفافية ومكافحة الفساد.
لكن خلف هذه الخطوة هناك الكثير من الأسئلة العميقة عن السياسة والقانون، وحتى عن معنى “الوزير” في القرن الحادي والعشرين. فمن الناحية القانونية، الوزراء في أي نظام ديمقراطي هم أشخاص طبيعيون يخضعون للمساءلة أمام البرلمان والقضاء. وهو ما لا يمكن تحقيقه مع الذكاء الاصطناعي، مهما بلغت قدراته، حيث لا يمكن مساءلته سياسيًا أو جنائيًا. فمن المسئول إذاً عن قرارات “دييلا”؟ المبرمج؟ الشركة المطورة؟ أم رئيس الوزراء الذي عيّنها؟ هنا تبرز فجوة دستورية لا يمكن تجاهلها.
من الناحية الأخلاقية والسياسية تراهن الحكومة الألبانية على صورة “الخوارزمية المحايدة” التي تقضي على المحسوبية والرشوة. لكن الحقيقة أن أي خوارزمية تحمل “تحيزات من صمموها”، وقد تتحول إلى أداة لتبرير قرارات معدة سلفًا. الفرق الوحيد أن القرار يُغلف بواجهة رقمية يصعب الطعن فيها.
ومن الناحية العملية فالمشتريات العامة ليست مجرد أرقام، فهناك اعتبارات تتعلق بالجودة، والأمن القومي، والتوازن الاجتماعي، وهي أمور يصعب اختزالها في معايير تقنية. إضافة إلى ذلك، قد تواجه الدولة دعاوى قضائية إذا استبعدت شركة من مناقصة بقرار غامض من “وزير افتراضي”.
مع ذلك، لا يمكن إنكار أن الخطوة تحمل بُعدًا استراتيجيًا، فألبانيا تريد الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي منذ عام 2009، والاتحاد يضع مكافحة الفساد شرطًا أساسيًا، وفي إطار إثبات جهود تحسين مكافحة الفساد لديها، أطلقت ألبانيا الوزير “دييلا” ليس فقط كمجرد برنامج، بل رسالة سياسية تتضمن “نحن مستعدون للابتكار والشفافية”، وعلى الرغم من إحتمالية ترحيب الاتحاد الأوروبي بالإبتكار، لكنه سيطلب ضمانات دستورية وقانونية لمساءلة القرار السياسي. فأي انبهار بالتكنولوجيا لن يُغني عن الإصلاح المؤسسي العميق.
وعلى الرغم من أن هذا التعيين للوزير الافتراضي ليس رسمياً بشكل كامل في الحكومة، بل خطوة تجريبية لاستخدام الـAI في الإدارة الحكومية لضمان الشفافية والنزاهة، حيث إن تعينه رسمياً يقتضي تعديل دستوري، فغالباً ما تنص الدساتير على أن الوزراء “أشخاص” يُختارون من المواطنين أو من ذوي الأهلية القانونية، وهو مالا يتوافر لأنظمة الذكاء الاصطناعي حتى الان. كما أن البرلمان لا يستطيع استجواب “دييلا” أو حجب الثقة عنها. إذاً إما أن يكون الوزير الافتراضي مجرد أداة تقنية تحت إشراف وزير بشري، أو يتم خلق آلية جديدة تجعل المسؤولية النهائية على الحكومة ككل.
وعلى جانب اَخر فإن شرعية الديمقراطية في النظم السياسية الديمقراطية، تقوم على قيام الشعب بإنتخاب ممثلين يمكن محاسبتهم، و إجراءات إدخال الذكاء الاصطناعي في منصب وزاري قد يُضعف فكرة “التفويض الشعبي”، لأنه لا توجد آلية لمساءلة أو تغيير وزير افتراضي.
وعلى الرغم من التجارب السابقة لبعض الدول في استخدام الذكاء الاصطناعي (كمساعد) في المشتريات أو لمراقبة العقود مثل كوريا الجنوبية و إستونيا، إلا أنه لم يسبق أن قامت أي دولة بمنح “منصب وزاري” لنموذج ذكاء اصطناعي. مثل ما قامت به ألبانيا، والتي تتمتع بميزة وأفضلية لشركات التكنولوجيا لتطبيق تجاربهم وقياس أداء لمستقبل استخدامات الذكاء الاصطناعي، وذلك كونها دولة صغيرة لم يتجاوز عدد سكانها ثلاثة مليون نسمة، ودولة فقيرة نسبياً مقارنة بدول أوروبا الشرقية، كما أنها تمر بمرحلة انتقالية اقتصادية تتحول خلالها نحو توسيع السوق الحرة، تسعي من خلالها لجذب الشركات والأستثمارات الأجنبية خاصة في مجال البنية التحتية والنقل والتكنولوجيا.
إلا أن تلك التجربة حال نجاحها على هذا النموذج المصغر، قد تتوسع لتشمل وزراء افتراضيون للمالية أو التعليم أو الصحة، وهذا قد يغير مفهوم “الوزير” من شخصية سياسية إلى وظيفة تقنية، ويفتح الباب لخلق أنظمة سياسية “افتراضية” وتحول كامل في مفاهيم العلوم السياسية والأجتماعية ومستقبل البشرية بأكلمها.
في النهاية يظل السؤال مفتوحًا هل يشكل “الوزير الافتراضي” مستقبلًا للحكم الرقمي، أم مجرد عرض سياسي يلمع صورة الحكومة دون أن يعالج جذور الفساد؟ الإجابة ستتوقف على ما إذا كانت التجربة الألبانية قادرة على تحويل الذكاء الاصطناعي من أداة رمزية إلى إصلاح مؤسسي حقيقي.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.