مؤمن سليم يكتب | قانون الذكاء الاصطناعي

0

مع التسارع غير المسبوق في تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي (AI) على المستوى العالمي، لم تعد الدول تملك رفاهية الانتظار أو التجريب العشوائي في التعامل مع هذه التقنيات التي أصبحت محرك للأقتصاد، والسياسة، والصحة والتعليم، وصولاً إلى العدالة والأمن والوظائف، والتي تحمل وعودًا عظيمة، لكنها في الوقت ذاته تثير أسئلة أخلاقية وقانونية صعبة. الأمر الذى يفرض على  بل على الحكومات أن تتبنى أطرًا تشريعية متقدمة ومرنة لتنظيم استخدام الذكاء الاصطناعي، توازن بين تشجيع الابتكار وضمان حماية الحقوق والحريات. وفي هذا السياق، تبرز الحاجة الملحة لأن تشرع مصر في صياغة قانون وطني شامل للذكاء الاصطناعي.

لماذا نحتاج إلى قانون؟ لأننا ببساطة لا نملك أدوات واضحة لمساءلة نظام آلي يتخذ قرارًا خاطئًا، ولا آليات فعالة لضمان ألا يتحول استخدام الذكاء الاصطناعي إلى وسيلة للمراقبة الجماعية أو الإقصاء الرقمي من خلال التحيز الخوارزمي، أو التوسع في تقنيات التزييف العميق والتي تهدد سلامة المجتمعات والدول من خلال تشكيل الوعي الجمعي من خلال فبركة وخلق أحداث ليست واقعية، كما أن إعتماد الذكاء الاصطناعي على كميات ضخمة من البيانات، يصبح من الضروري تنظيم كيفية جمعها واستخدامها، فضلاً عن تهديدات الأمن السيبراني التي تشهد توسع عبر تقنيات الذكاء الاصطناعي. القانون ليس عائقًا أمام الابتكار كما يظن البعض، بل هو الضمان الوحيد لأن يكون الابتكار في خدمة الإنسان، لا العكس فوجود إطار قانوني (واضح) يمنح الثقة للمستثمرين ورواد الأعمال في قطاع التكنولوجيا، ويدفع الجامعات ومراكز البحث العلمي للمساهمة في تطوير حلول ذكاء اصطناعي تلبي احتياجات المجتمع المصري والدولي، وتضعنا على الخريطة العالمية للذكاء الاصطناعي.

يشهد العالم حراك تشريعي لتنظيم الذكاء الاصطناعي، فعلى الرغم من عدم توصل الأمم المتحدة ومؤسساتها إلى قانون نموذجي بعد، إلا أن هناك العديد من التجارب الدولية التي أقرت قوانين لتنظيم الذكاء الاصطناعي والتي توفر مرجعية مهمة لباقي الدول وتمهد لقانون نموذجي دولي، مثل الأتحاد الأوروبي والذي أصدر في 2024 أول قانون شامل في العالم لتنظيم الذكاء الاصطناعي (EU AI Act)، اعتمد على تصنيف المخاطر، مع حظر بعض التطبيقات عالية الخطورة، وفرض التزامات صارمة على النماذج التوليدية.

وفي الولايات المتحدة الأمريكية هناك العديد من القوانين المحلية الخاصة بالولايات التي تحاول حماية الخصوصية وتنظيم جمع وتداول المعلومات، مثل قانون خصوصية المستهلك (CCPA) في كاليفورنيا، وقانون مبادرة الذكاء الاصطناعي الوطنية 2020 والذى بموجبه تم إنشاء مكتب المبادرة الوطنية للذكاء الاصطناعي، الذى يقع داخل البيت الأبيض، والمعني بالإشراف على استراتيجية الذكاء الاصطناعي الوطنية الأمريكية وتنفيذها، فضلاً عن مشروعات قوانين مازالت تحت الدراسة في الكونجرس مثل قانون الذكاء الاصطناعي في الحكومة، وقانون وظائف الذكاء الاصطناعي، وقانون شفافية الذكاء الاصطناعي، وقانون المسائلة الخوارزمية وقانون كما أصدر الرئيس السابق بايدن في 30 أكتوبر 2023 الأمر التنفيذي بشأن الذكاء الاصطناعي الاَمن، بهدف إدارة مخاطر الذكاء الاصطناعي من خلال وضع معايير جديدة للسلامة وأمن الذكاء الاصطناعي، حماية خصوصية الأمريكيين، تعزيز المساواة والحقوق المدنية، الدفاع عن المستهلكين والمرضى والطلاب، دعم العمال، تشجيع الابتكار والمنافسة، تعزيز القيادة الأمريكية في الخارج، وضمان الأستخدام الحكومي المسئول والفعال للذكاء الاصطناعي.

وفي فبراير 2025 أصدرت الحكومة البريطانية دليلاً بعنوان “دليل الذكاء الاصطناعي للحكومة البريطانية”، والذي يهدف إلى وضع إطار تنظيمي واضح لاستخدام الذكاء الاصطناعي في القطاع الحكومي. كما أعتمدت بكين عدد من القوانين و اللوائح المتعددة والتي تعني بتنظيم المحتوى التوليدي وتسجيل الخوارزميات ذات التأثير المجتمعي، وحماية البيانات، بما ينسجم مع نهجها في رقابة الإنترنت دون تعطيل الإبتكار. وعربياً أطلقت الإمارات استراتيجية وطنية وبدأت فعليًا في تنظيم الأطر الأخلاقية والتشغيلية للذكاء الاصطناعي. حتى الدول الإفريقية بدأت تتحدث عن “الحوكمة الرقمية” كأولوية.

تمتلك مصر قاعدة علمية قوية وسوقاً كبيرة، وخبرات تقنية وقانونية وتشريعية عريقة، تُمكنا من إصدار قانون رائداً عربياً وأفريقياً، بل يمكن أن نطمح لطرح دليل دولي لتنظيم الذكاء الاصطناعي من خلال اللجنة الاستشارية للأمم المتحدة حول الذكاء الاصطناعي (UN AI Advisory Body)، ويكون لمصر مقترح بإنشاء وكالة دولية تابعة للأمم المتحدة معنية بتنظيم وتطوير وحوكمة الذكاء الاصطناعي.

إن الحاجة القانونية الملحة لإصدار قانون مصري لتنظيم الذكاء الاصطناعي ليست فقط من باب مشاركة المجتمع الدولي في قضاياه وإدماج مصر في المنظومة العالمية لحوكمة الذكاء الاصطناعي، وإنما لتلبية العديد من الأحتياجات وعلى رأسها حماية وتعزيز السيادة الرقمية للدولة، وحماية المجتمع من الاستخدامات الضارة والجائرة، وتعظيم الاستثمارات الأجنبية المباشرة في مجالات التكنولوجية والتي أرى فيها فرصة كبيرة لإنشاء مراكز بيانات دولية في مصر، وأيضاً دعم وتمكين والجامعات ومراكز الأبحاث في تطوير الأبحاث عبر الذكاء الاصطناعي، وحماية الملكية الفكرية، وإتاحة الإطار القانوني لبناء تطبيقات محلية.

وعليه فعلينا الشروع فوراً في إعداد مشروع قانون وطني للذكاء الاصطناعي بمشاركة المجتمع العلمي والقطاع الخاص، لا نحتاج إلى نص معقد بل إلى إطار قانوني مرن يستند إلى مبادئ العدالة، والشفافية، والمسؤولية، ويخاطب المستقبل لا الماضي، يتضمن تعريف دقيق للذكاء الاصطناعي وتطبيقاته (التصنيفي، التنبؤي، التوليدي، المعمم) – مع قابلية التحديث الدوري -، ويتضمن تصنيف المخاطر وتحديد الأنشطة المحظورة أو المقيدة، وضمان حماية الخصوصية ومنع التمييز أو التحيز الاَلي ضد الأفراد، وحوكمة البيانات وتوثيق الخوارزميات، وتشجيع المشاريع المحلية الناشئة في مجال الذكاء الاصطناعي من خلال إعفاءات ضريبية، وصناديق استثمار، وتسهيل الحصول على البيانات المفتوحة، وأخيراً تحويل المجلس الوطني للذكاء الاصطناعي إلى هيئة مستقلة بموجب قانون خاص به، يتولي مسئولية التنظيم والحوكمة والمراقبة وإصدار التصاريح والتراخيص اللازمة.

إن سن قانون للذكاء الاصطناعي في مصر لم يعد ترفًا تشريعيًا، بل ضرورة استراتيجية. فكما بدأت مصر مبكرًا في بناء بنية تحتية رقمية متطورة، ينبغي الآن أن تقود المنطقة في بناء منظومة قانونية ذكية، عادلة، وشاملة لتنظيم الذكاء الاصطناعي. القانون المطلوب ليس مجرد نصوص جامدة، بل خارطة طريق لمستقبل نشارك فيه لا كمستهلكين فقط، بل كمبدعين ومؤثرين في تكنولوجيا ستشكل العالم لعقود قادمة، إن التقنية لا تنتظر، ومن لا يملك قانونه الخاص، سيعيش بقوانين غيره.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.