مؤمن صفوت = غياب الكتاب في العصر الرقمي
في مشهدٍ يومي يعيشه الملايين داخل عربات مترو الأنفاق أو صالات الانتظار، يطالعك حقيقةٌ مُرة: بحرٌ من
الرؤوس المنحنية على الهواتف، تنتقل بلهفة بين مقاطع “التيك توك” الومضة، بينما يبدو الكتاب الورقي غريباً
وحيداً كأنه قطعة أثرية من زمنٍ منقرض. هذه الصورة ليست عابرة، بل تعكس أزمةً عميقةً تكشفها أرقام الجهاز
المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (2023) بوضوحٍ صادم: المواطن المصري يُنفق ست ساعات يومياً في
المتوسط في التمرير الرقمي السطحي، بينما لا تخصص عيناه للكتب غير الأكاديمية سوى سبع دقائقٍ ضئيلة
على مدار عامٍ كامل. هذه الهوة المهولة بين الاستهلاك الرقمي المجاني والاستثمار الفكري الجاد ليست مجرد
إحصاء، بل هي ناقوس خطرٍ يدق لتحذيرنا من مجتمعٍ يخسر أدواته للتأمل والتحليل.
تُعزى هذه الظاهرة إلى تشابكٍ معقدٍ من العوامل الاقتصادية والثقافية والتكنولوجية. فمن ناحية، قفزت أسعار
الكتب بنسبة أربعين بالمائة خلال خمس سنوات فقط (نقابة الناشرين، 2024)، بينما تراجعت القدرة الشرائية
للأسرة المصرية إلى مستوياتٍ حرجة، محوّلةً الكتاب من ضرورةٍ ثقافية إلى كماليةٍ غير متاحة. وفي المقابل،
تقدم منصات المحتوى القصير إغراءً ثلاثياً: مجانية الوصول، وسهولة الهضم، وإدمان التحديث المستمر. لكن
هذه الوجبات السريعة للعقل تأتي بثمنٍ خفي: فبحسب دراسة “DataReportal 2024”، تسببت ظاهرة “القفز
الرقمي” في تراجع قدرة التركير المتواصل لدى 76% من الشباب المصري إلى أقل من ثلاثين ثانية – وهي
الفترة ذاتها التي تستغرقها مشاهدة مقطع “رييلز” واحد.
ولا يقل دور المنظومة التعليمية إثارةً للقلق، إذ تحولت المكتبات المدرسية في كثيرٍ من المدارس الحكومية إلى
مخازن للأثاث القديم، بينما اختُزلت القراءة الحرة في ملخصاتٍ جافة تُحشى في أذهان الطلاب قبل
الامتحانات. هذا الواقع يخلق أجيالاً تؤمن بأن المعرفة وسيلةٌ للنجاح لا متعةٌ للعقل، وفقاً لتقرير المجلس الأعلى
للتعليم (2023). والنتيجة كارثية على المستويين الفردي والجمعي: فمن جهةٍ، يزداد الشباب عزلةً عن تراثهم
اللغوي والأدبي، وتتراجع قدرتهم على تمييز الشائعات من الحقائق في زمنٍ تطغى فيه الضوضاء على الحكمة.
ومن جهةٍ أخرى، يصبح المجتمع فريسةً سهلةً للخطاب التسطيحي، وتنحسر مساحات الحوار الفكري لتحل محلها
صراعاتٌ عقيمة تفتقر إلى العمق.
مواجهة هذا التحدي تتطلب خطةً ثلاثية الأبعاد. على الصعيد المؤسسي، لا بد من إعادة إحياء “مشروع مكتبة
الأسرة” بطباعة كتبٍ ميسورة التكلفة، وتفعيل المكتبات العامة في الأحياء المهمشة بدلاً من تركيزها في
العاصمة. وفي الحقل التعليمي، يُصبح إدراج “حصة المطالعة الحرة” الأسبوعية – الخالية من الواجبات والتقييم
– ضرورةً لزرع علاقةٍ عاطفية مع الكتاب منذ الطفولة. أما التحدي التكنولوجي الأصعب، فيكمن في تصميم
منصاتٍ عربيةٍ جاذبةٍ للقراءة العميقة، تستخدم نفس آليات الإدمان الرقمي لصالح المعرفة، كتطبيقاتٍ تمنح نقاطاً
عند إكمال الفصول، أو نادي قراءةٍ افتراضي يناقش الكتب عبر “بثٍّ مباشر”.
هذه المعركة ليست ترفاً ثقافياً، بل هي استثمارٌ في وعي الأمة. فالتجارب التاريخية تُثبت أن الأمم التي تستهلك
المعرفة دون إنتاجها، تتحول إلى ظلالٍ لتقدم الآخرين. الكتاب الورقي أو الرقمي ليس مجرد حبرٍ على ورق، بل
هو الجسر الأخير الذي يمنعنا من السقوط في هاوية الجهل المُعولم. فهل نترك هذا الجسر ينهار بينما نحن نحدق
في شاشاتٍ صغيرةٍ لا ترى أبعد من أنوفنا؟