كان العالم الذي حلم به أسلافنا بسيطًا إلى حدٍّ مثير. خيارات محدودة، طرق معبّدة، ومعلومات تأتي من مصادر
معروفة وواضحة. أما اليوم، فنعيش في عالمٍ مختلف تمامًا. عالمٌ يغمرنا بفيضٍ من الخيارات لا نحسد عليه: من
فيلمٍ نشاهده على منصة أفلام إلى وجبة العشاء التي نطلبها، وحتى الشريك المحتمل الذي نعثر عليه عبر تطبيق
مواعدة. يبدو وكأننا نتمتع بحرية مطلقة، لم يحظ بها جيل من قبلنا. لكن وراء هذه الواجهة اللامعة، يقبع سؤالٌ
وجودي مؤرق: في هذا العالم الذي تُخطط له الخوارزميات بدقة، هل خياراتنا حقًا نابعة من إرادتنا؟ أم أننا
مجرد دمى تُحركها خيوطٌ رقمية خفية؟
لم يعد خفيًا أن المنصات الرقمية لم تعد مجرد أدوات محايدة. لقد أصبحت “مُنظِّمي حياتنا غير المرئيين”. هي
التي تقترح علينا ما نراه، ما نقرأه، ومن نتبعه. تعمل هذه الخوارزميات ضمن ما يُعرف بـ “فقاعة الترشيح”،
حيث تعزلنا داخل عالمٍ رقمي مُصمم خصيصًا لنا، يعزز معتقداتنا ويغذي تحيزاتنا، ويخفي عنا، بلطفٍ خادع،
كل ما من شأنه أن يزعجنا أو يتحدى آراءنا. النتيجة؟ مجتمعٌ منقسم إلى غرف صدى لا يسمع فيها المرء سوى
صدى صوته هو. فهل هذه حرية؟ أم أنها حرية مُسيجة وموجهة؟
لا يتوقف الأمر عند المحتوى الذي نستهلكه، بل يمتد إلى قراراتنا الشرائية بل وقراراتنا العاطفية. تخيل أنك
تبحث عن حذاء رياضي جديد. فجأة، تبدأ إعلانات الأحذية بمطاردتك عبر كل منصة. تقترح عليك خوارزميات
المتاجر “الأنسب” لك بناءً على تاريخ تصفحك. الخيار يبدو واسعًا، لكنه في الحقيقة موجّه نحو خيارات محددة
سلفًا لتحقيق أعلى احتمال للشراء. لقد حولتنا الخوارزميات من مشترين إلى هدفٍ يتم دراسته وتحليله. نحن لا
نختار، بل يتم اختيارنا.
حتى علاقاتنا الإنسانية لم تسلم من هذا التوجيه. تطبيقات التعارف لا تقدم لنا شريكًا محتملًا بناءً على الصدفة أو
القَدَر، بل بناءً على معادلةٍ حسابية معقدة. هي التي تقرر من الذي “سننقر” عليه حتى قبل أن نراه. تخلق وهمًا
بالوفرة والاختيار اللاّمتناهي، بينما هي في الحقيقة تضيق دائرة خياراتنا إلى مجموعة من “المطابقات” التي
تختارها هي لنا. لقد استبدلنا جمال المفاجأة والصدفة بكفاءةٍ باردةٍ لا تعرف سوى لغة البيانات.
لكن، وقبل أن نستسلم لنظرية “المؤامرة الخوارزمية”، يجب أن نطرح سؤالًا جوهريًا: ألسنا شركاء في هذه
المعادلة؟ نعم، الخوارزميات تتلاعب بنا، لكنها تفعل ذلك باستخدام بياناتنا نحن. كل “إعجاب”، كل بحث، كل
ثانية نقضيها في مشاهدة مقطع فيديو هي بمثابة تصويت نخبر به الخوارزمية: “هذا هو ما أريد”. نحن لسنا
كائنات سلبية؛ بل نحن من يغذي الآلة التي تتحكم بنا. مشكلتنا ليست مع الخوارزمية نفسها، فهي أداة بلا نوايا، بل
مع غياب الشفافية وكيفية استخدام هذه القوة الهائلة من قبل الشركات التي تتحكم بها.
فأين توجد الحرية الحقيقية إذن؟ ربما تكمن في الوعي. الوعي هو أول خطوات التحرر. أن ندرك أننا داخل هذه
الفقاعة، وأن نتساءل عن كل ما يتم تقديمه لنا. أن نخرج عمدًا عن نطاق التوصيات المقترحة لنبحث عن آراء
مخالفة. أن نتوقف عن متابعة المؤثرين الذين تدفعهم الخوارزمية إلى صفحاتنا. أن نتحلى بالفضول لإزالة هذا
القناع الرقمي ورؤية العالم بكل تعقيداته وجماله الفوضوي.
الحرية في العصر الرقمي لم تعد مُعطى، بل أصبحت مسؤولية. مسؤولية تتطلب منا أن نكون يقظين، أن نتعلم
كيف تعمل هذه الأدوات، وأن نطالب بالشفافية. الخيارات قد تكون موجهة، لكن إرادتنا في مقاومة هذا التوجيه،
والسعي لرؤية الصورة الأكبر، تظل أقوى أدواتنا. في النهاية، قد لا نستطيع كسر الخوارزميات، لكننا قادرون
على كسر طاعتها العمياء داخل عقولنا. ذلك هو التحدي الحقيقي لجيلنا.