مؤمن عبدالله يكتب | ٢٣ يوليو.. صوت الحرية

0

لم تكن مجرد حركة عسكرية في ليلة صيفية خانقة، بل كانت زفرة شعب اختنق طويلاً تحت ثقل التاج‌
والاستعمار والفقر. ثورة ‌‌٢٣‌ يوليو ‌‌١٩٥٢‌‌… هذه العبارة التي تتردد كشعار، تخفي وراءها نبضات قلوب آلاف‌
المصريين العاديين الذين شعروا، للمرة الأولى منذ عقود، بأن الأفق قد انفتح، بأن كرامتهم قد عادت لتكون سلعة‌
ليست مُحتكرة.
ما قبل الفجر: ليس مجرد “حكم فاسد”
نحكي دائماً عن “الفساد” و”الهزيمة في فلسطين” كشعلة الثورة، وهذا صحيح. لكن الصورة أعمق. تخيل جندياً‌
عائداً من حرب فلسطين، مثل “محمود” من قرية صغيرة في الصعيد. عاد ليس فقط مهزوماً في المعركة، بل‌
مهزوماً في روحه. رأى بأم عينيه الفارق المهين بين ضباط القصر المترفين وبين الجنود الذين يقاتلون ببنادق‌
صدئة وبطون خاوية. سمع وعوداً ذهبية ذهبت أدراج الرياح. عاد ليجد أسرته تُصارع الجوع بينما أراضي‌
الإقطاعيين الشاسعة تتراءى له كسخرية قاسية. هذا الإحساس بالظلم المُركب – الوطني والاجتماعي والاقتصادي‌
– هو ما جعل صيحة “كفاية!” تخرج من حناجر لم تعد تخشى شيئاً.
الليلة: ليست فقط دبابات و”بيان رقم ‌‌١‌‌”
نعم، تحركت الدبابات نحو نقاط حساسة في القاهرة والإسكندرية. لكن خلف هذه الصورة العسكرية، كانت هناك‌
دراما إنسانية صغيرة تكاد تُنسى. تخيل “سهام”، الممرضة الشابة في مستشفى قصر العيني، التي لاحظت‌
حركة غير اعتيادية للجنود في ساعات الفجر الأولى. لم يكن خوفاً فقط ما شعرت به، بل فضولاً غريباً ممزوجاً‌
بأمل مبهم. سمعت همسات بين المرضى والزملاء: “خلاص؟”، “يستاهلوا!”. تخيل سائق التاكسي “عبد السميع”‌
الذي وجد طريقه محاصراً حول ميدان التحرير، فقرر إيقاف سيارته والانضمام لحشد بدأ يتكون، يتبادل الأخبار‌
المتناثرة، ينتظر “بيان” لم يعرفوا بعد مضمونه، لكنهم شعروا في عظامهم بأنه شيء كبير، شيء *لهم*.
ما بعد الفجر: الزحام الحقيقي كان في القلوب، لا الشوارع
صحيح أن الشوارع لم تشهد معارك ضارية في ‌‌٢٣‌ يوليو نفسها، لكن الزلزال الحقيقي حدث في وعي الناس. في‌
اليوم التالي، انتشر الخبر كالنار في الهشيم. في مقهى بحي شعبي، تجمع “الحاج متولي” ورفاقه المسنين، وهم‌
يمررون جريدة الصباح بيد مرتعشة وعيون دامعة. “سقط الملك.. خلاص بقى؟” همس أحدهم بصوت مبحوح.‌
رد آخر: “الله المستعان.. بس أي كلام أحسن من اللي فات!”. في البيوت، كانت النساء يتبادلن النظرات وهن‌
يسمعن الراديو، بعضهن يبكين بحرقة تختلط فيها ذكرى فقدان عزيز في فلسطين مع أمل غامض في غد أفضل‌
لأبنائهن.
“الضباط الأحرار”: ليسوا تماثيل على قاعدة
نُجيد نحن في رسمهم كأبطال أسطوريين، لكنهم كانوا شباناً في مقتبل العمر، تحملوا مسؤولية هائلة. تخيل‌
مشاعر “يوسف”، الضابط الصغير الذي كان في إحدى الوحدات المتحركة ليلة الثورة. الخوف الطبيعي يمتزج‌
بالإثارة والحماس، والمسؤولية الملقاة على عاتقه تجاه رجاله وتجاه مستقبل بلده. رسالة سريعة يكتبها على‌
قصاصة ورق لأمه قبل التحرك: “لا تقلقي يا أمي، إن شاء الله خير.. شيء مهم للبلد”. هذه المشاعر البشرية –‌
التوتر، التردد أحياناً، الإيمان العميق أحياناً أخرى – هي ما جعلهم بشراً ملهَمين، وليس آلات عسكرية باردة.
اللمسة الإنسانية: الثورة التي بَنَت إنساناً:
بين خطط التأميم والإصلاح الزراعي والعدالة الاجتماعية، كان هناك إنجاز إنساني عميق: **استعادة‌
الكرامة**. لم يعد الفلّاح “عبد الله” مجرد رقم في سجل الإقطاعي، صاحب الأرض التي يعمل فيها. أصبح له‌

اسم، له حق، له صوت. المرأة التي كانت تُحرم من التعليم، رأت أبواب المدارس والجامعات تُفتح أمام بناتها.‌
العامل في المصنع شعر أنه يبني وطناً له نصيب فيه، وليس فقط يغني جيوب الآخرين. هذا الشعور الجمعي‌
بالانتماء والعدالة، ولو بمثالية البدايات، هو الوقود الحقيقي الذي جعل المصريين يتحملون التحديات والصعاب‌
لاحقاً.
لمسة خاصة: صوت منسي وحدة الإشارة النسائية
قليلون من يعرفون أن مجموعة صغيرة من النساء، مدنيات وعسكريات، لعبن دوراً حيوياً لكن خفياً ليلة الثورة‌
وفي أيامها الأولى. في غرفة عمليات مؤقتة، كانت “نوال” وزميلاتها في “وحدة الإشارة النسائية” يتلقين الرسائل‌
المشفرة ويُعدن إرسالها، ويُنسّقن الاتصالات بين الوحدات المتحركة والقادة. أيام من التوتر الشديد، العمل‌
المتواصل في سرية تامة، الخوف على الأهل وعلى نجاح المهمة، والشعور بأنهن جزء من لحظة تاريخية تغير‌
مجرى الوطن. هذه القصص المغمورة تُذكّرنا بأن الثورة كانت جهداً جماعياً، شارك فيه رجال ونساء،‌
عسكريون ومدنيون، بأدوار مختلفة لكنها متكاملة.
أكثر من مجرد تاريخ.. نبضة لا تنتهي
ثورة ‌‌٢٣‌ يوليو لم تكن مجرد صفحة في كتاب تاريخ. كانت لحظة تحول جذري في الوجدان المصري. كانت‌
اللحظة التي أدرك فيها المصري البسيط أنه ليس رقماً، ولا تابعاً، بل هو صاحب حق وأرض ومستقبل. هي قصة‌
كفاح من أجل الكرامة، قادها شباب آمنوا بالتغيير، وحملها في قلبه كل مواطن شعر أن الهواء أصبح أخف، وأن‌
الشمس في صباح ‌‌٢٤‌ يوليو ‌‌١٩٥٢‌‌، أشرقت على مصر جديدة. هذه الروح – روح التحرر والعدالة والكرامة‌
الوطنية – هي الإرث الحقيقي الذي يستحق أن نتذكره، ليس فقط بتحليل سياسي جاف، بل بقلب ينبض بتفهم‌
عميق لتلك المشاعر الإنسانية الجامحة التي غيرت وجه مصر إلى الأبد. إنها نبضة في قلب الأمة، قد تهدأ أحياناً،‌
لكنها لا تتوقف أبداً عن الخفقان.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.