ماجد احمد الزاملي يكتب | الاقتصاد العالمي التضخم والانحناء (٢-٢)

0

مع ازدياد طموحات الدول في التنمية بدون دراسة دقيقة و علمية الاختيارات التي
طبقتها لتحقيق هذا الهدف، و محافظة الرأسمالية العالمية على أهم مواقعها بهذه البلاد، بقيت هذه الأخيرة مع
استثناء بعض التغيرات الطفيفة تحتل نفس الموقع في التقسيم الدولي للعمل و ذلك بتخصيصها دائما في إنتاج و تصدير المواد الأولية مقابل استيرادها للسلع الاستهلاكية والمصنعة من الدول الرأسمالية. وهكذا بقيت الأسس
الموضوعية لعلاقات الاستغلال والتبعية بدون تغيير، وهي العلاقات التي أفرزت التبادل اللامتكافيء الناتج
عن تدهور شروط التبادل التجاري في المدى الطويل لغير صالح الدول النامية الشيء الذي أدى إلى إضعاف
القدرة الذاتية لهذه البلاد على تمويل مشروعاتها الاستثمارية بسبب النزيف الكبير لفائضها الاقتصادي إلى
الخارج. ولا ننسى أن هذه البلدان لم تتمكن من الحصول على المعونات والقروض التي كانت تتطلبها
مشاريعها الاستثمارية الصناعية بسبب الموقع الضعيف واللامتكافيء لهذه البلدان في العلاقات الاقتصادية
الدولية و بالخصوص موقعها في المنظمات التجارية والمالية الدولية. و مهما يكن، فإن هذه الدول استطاعت أن تتحكم في تسيير مديونيتها خلال عقدي الخمسينات و الستينات، بحيث لم تكن أعباء خدمتها ( الفوائد +
الأقساط) تسبب حرجاً شديداً لها، و لم تكن تتجاوز هذه الديون 75 مليون دولار في الستينات. و ذلك يرجع
أولا إلى الاستقرار النسبي للنظام الاقتصادي العالمي و ثانياً إلى استطاعة هذه البلدان على مواجهة خدمة
الديون وإدارة عجز موازين مدفوعاتها من خلال التحكم في الرقابة على الصرف وفي قطاع التجارة
الخارجية. لكن هذه الأساليب سرعان ما فقدت فاعليتها منذ بداية السبعينات حينما بدأت الفوضى تعم نظام النقد
الدولي وحينما خيَّم الكساد الاقتصادي على الدول الرأسمالية الصناعية.وهذه السمات الجديدة، التي رسمت
الملامح الأساسية لصورة الاقتصاد الرأسمالي في عقد السبعينات، أثَّرت بشكل شديد على حالة البلاد المتخلفة
ودفعت ديونها الخارجية إلى تطور مفزع لا مثيل له في العلاقات النقدية الدولية. والواقع أنه خلال النصف
الثاني من السبعينات وإلى أوائل الثمانيات كانت إمكانية القروض متوفرة وإن كانت شروطها صعبة. فكانت
الأسواق العالمية النقدية، خاصة قصيرة الأجل، تسمح بتلبية حاجيات البلاد المتخلفة من الاقتراض المتزايد
بسبب الإفراط الشديد في السيولة الذي أصاب هذه الأسواق من جراء ما راكمته من رؤوس أموال في سوق
الأورو – دولار، استطاعتها في إدارتها تدوير الفوائض النفطية بعد الصدمة البترولية الأولى. و ساعد أيضا
على هذا، طبيعة التشكيلات الاقتصادية و الاجتماعية السائدة في البلاد النامية والتي جعلتها تُفضِّل اللجوء إلى
الاقتراض الخارجي كمخرج رئيسي للعجز في موازنتها الجارية والتخفيف من أزمتها الاقتصادية. كما أن
سهولة الحصول على الموارد المالية في ظل الإقراض العالمي شجعت المسؤلين في البلاد النامية على تشجيع
الواردات وخاصة تلك الخاصة بالاستهلاك الترفي، عدم تطبيق سياسات اقتصادية ناجعة تواجه بها العجز في
مواردها المالية. كما أوهمت هذه والقروض هؤلاء الحكام. بإمكانية مواصلة التنمية بدون الوقوع في مشكلة
السداد في المديين القريب والمتوسط وعلى العموم فإن المديونية الخارجية للبلاد النامية عرفت تطورا سريعاً
في أحجامها وخاصة منذ النصف الثاني من عقد السبعينات. لقد خلقت هذه الأعباء المرتفعة للمديونية
صعوبات كبيرة للدول النامية، خاصة تلك التي لم تستطع تسديد مستحقاتها في أوقاتها المحددة، في الحصول
على قروض جديدة تستعملها في إنعاش اقتصادياتها التي أصبحت تعاني انكماشا مستمرا. وصلت هذه
الصعوبات درجة الانفجار سنة 1982 عندما أعلنت بعض دول أمريكا اللاتينية توقفها عن تسديد مستحقاتها,
الأمر الذي أدى إلى انخفاض محسوس في الائتمان المصرفي الدولي الذي يشكل المصدر الرئيسي للسيولة
الخارجية المقترضة للبلاد النامية.وترتب عن حصار المديونية المضروب على البلاد النامية سقوط هذه
الأخيرة في فخ إعادة الجدولة للديون. وتعني إعادة جدولة الديون ,إقرار الدول المدينة بأنها عاجزة على تسيير
أمورها لوحدها و بالتالي تسمح لتدخل سلطات الدول والبنوك المقرضة لفرض شروطها المجحفة على هذه
البلاد. والاتفاق على إعادة الجدولة ينص على أنه يجب على البلد المدين التقيد بجملة من السياسات و
التوجهات الاقتصادية و الاجتماعية، و تكون هذه السياسات على شكل تعهد في ” خطاب النوايا المتبادل بين
البلد المعني و صندوق النقد الدولي ويخص الإنفاق العام و السياسة الاستثمارية و التجارية الخارجية”.
نستخلص مما سبق أن عقد الثمانينات عرف أزمة اقتصادية عالمية لم يسبق لها مثيل. هذه الأزمة أدت إلى
نكسة عملية التنمية في البلاد النامية. وكان لتردي البيئة الاقتصادية الخارجية مسؤولية كبيرة في هذه الوضعية
وما نتج عنها من تدهور في مجالي التجارة والتمويل الخارجي. وقد فرضت هذه الأزمة تكاليف ضخمة على
البلدان النامية مما أدى إلى تفاقم مديونيتها وانهيار تنميتها، الأمر الذي جعلها تخضع للشروط القاسية و
التدخلات السياسية والاقتصادية في شؤونها الداخلية من المنظمات و الهيئات الدولية المالية والتجارية.
لهذا ينبغي على الدول المتقدمة أن تأخذ بعين الاعتبار الترابط الاقتصادي العالمي وتعتبر أن مشاكل العالم
النامي جزءً لا يتجزأ من المشاكل العالمية. وبدون شك أن انتعاش التنمية بالبلدان النامية سيساعد على نحو
فعّال في إنعاش الاقتصاد العالمي وبالتالي في حل المشاكل الاقتصادية الدولية.لما كانت جملة من الملامح و
التطورات الجديدة التي طرأت على طبيعة وهيكلة النظام العالمي قد اتضحت معالمها بدءاً بانهيار دول
المعسكر الاشتراكي ,واندلاع حرب الخليج الثانية مع مطلع التسعينات في القرن المنصرم. وما تلا ذلك من
نهضة عارمة في نظم الاتصالات والمعلومات وبروز قوى لتكتلات اقتصادية عملاقة، فقد بات من الضروري
على أية دولة في هذا المحيط المتلاطم بأمواج التحدي المتنوعة التكيِّف مع إرهاصات هذا الواقع الجديد و ذلك
من خلال وقفة جادة مع الذات لمراجعة و تقييم جميع الفرص المتاحة أمامها و كذلك القيود المفروضة عليها
لاجتياز هذه المرحلة بأكبر نجاح ممكن، سواءً من خلال إمكاناتها الفردية أو عبر التنسيق و التعاون مع الدوائر
الإقليمية والعالمية المحيطة بها. و في ظل هذه الظروف التي تشهد سلسلة متواصلة من التغييرات الكبيرة على
مختلف الأصعدة محليا و إقليميا وعالميا وسط حيز مكاني وجغرافي آخذ في الانكماش و التقارب، و الذي
استقطب أيضا تعريفات جديدة كالعولمة أو الكوكبية، تواجه منطقة الخليج تحديات وصعوبات حقيقية تحتم على
دولها منفردة و مجتمعة المبادرة الفورية إلى صياغة مسارات جديدة تتفق مع طموحاتها و تطلعات شعوبها من
جهة، ومع إمكانياتها ودورها الارتكازي في سيناريوهات محتملة لطبيعة و هيكلية النظام العالمي من جهة
أخرى. إن الدول مطالبة، اختياراً أو قسراً، خلال هذه الفترة والتحول التاريخي إلى الألفية الثالثة، بتحديد
الدروس المستفادة من انحيازاتها السابقة و كذلك الإخفاقات التي اعترت مسيرتها التنموية محلياً، و خطواتها
نحو تفعيل وترجمة حلم التكامل الاقتصادي إقليميا كخيار لا يقبل المساومة أو التسويق في مواجهة تحديات العولمة القادمة بقوة وإصرار، والدوران في فلك النظام العالمي الجديد بثبات وثقة واقتدار.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.