مجدي عبد الهادي يكتب | الاقتصاد المصري في نصف قرن (2)
ما قبل ثورة يوليو: أيّ اقتصاد خلّفته مرحلة الاستعمار-الملكية؟ باستثناء إجراءات محدودة كالإصلاح الزراعي وغيره، لم تتحقق يوليو حقًا كثورة ذات توجّه واضح وأثر عميق سوى بتأميمات 1961م، فلم يكن ما قبلها سوى حالة من التخبّط المستمر، في صورة دعاوى إنشائية لا تغيّر واقعًا ولا تحرّك موضعًا، فلم يجر أي تغيّر نوعي كبير على الاقتصاد المصري بعد يوليو 1952م، وإن حدثت بعض التطورات الكمّية في اتجاهاته السابقة، لكنه استمر في المُجمل على ذات طابعه الهيكلي تقريبًا حتى أتت التأميمات، التي ربما سبقتها بعض التغييرات المؤسسية، لهذا ربما يكون من الأجدى التركيز على أوضاع هذا الاقتصاد قبل التأميمات مباشرةً في سياق مُقارنتها بأوضاعه وقت قيام الثورة؛ لفهم دوافع تلك الإجراءات.
أولًا: على صعيد التنظيم الاجتماعي للإنتاج، كان الهيكل الإنتاجي المصري حتى أواخر الخمسينات بصفة عامة، هيكلًا ذا طابع زراعي محدود العمق الصناعي والتكوين الرأسمالي، مع تركّز احتكاري وتورّم خدمي سابق لأوانه،
فنجد تكوينًا قطاعيًا نصفه خدمات وثُلثه زراعة، فيما لم تتجاوز صناعته 12% منه عام 1953-1954م، نجحت جهود الثورة في الإطار القائم قبل التأميمات مباشرةَ عام 1959-1960م، في الوصول به لتركيب أكثر تصنيعًا، بلغت به الصناعة والتعدين 20% تقريبًا، وظلّت الزراعة على حالها تقريبًا بنسبة 31%، فيما لم تنخفض حصة الخدمات عن 47% من الناتج المحلي الإجمالي.
أما التكوين الرأسمالي، أي نسبة رأس المال الإنتاجي في الاقتصاد، فكان استهلاكيًا ضعيف التكوين الإنتاجي، ما ظهر أولًا في غلبة الصناعات الاستهلاكية التي بلغت حصتها 74% من القيمة المُضافة للقطاع الصناعي عام 1950م، فيما بلغت حصص الصناعات الوسيطة 24% والاستثمارية 2% فقط، وثانيًا في غلبة المزارع الصغيرة على القطاع الزراعي (بسبب الاستقطاب الشديد في توزيع الملكية الزراعية قبل الإصلاح الزراعي)، وغلبة المنشآت الصغيرة على القطاع الصناعي (بسبب غلبة النمط الحرفي وتركّز رؤوس الأموال رغم قلّتها)، وثالثًا في ضعف رأس المال الثابت وانخفاض التكوين الرأسمالي في مُجمل الاقتصاد، وإن حاولت الثورة معالجة هذا الضعف، فزادت نسبة الآلات إلى جملة الواردات من 4.5% عام 1952م إلى 11% عام 1959م، تعبيرًا عن رغبتها في التطوير الصناعي؛ ما انعكس في تحسّن طفيف في تكوين القيمة المُضافة الصناعية، التي توزّعت ما بين 59% للصناعات الاستهلاكية و 33% للصناعات الوسطية و 3% للصناعات الثقيلة.
من جهة أخرى عانى هذا الهيكل الإنتاجي من استقطاب احتكاري شديد كابح للتطور الإنتاجي والسوقي والاجتماعي، فخلافًا للقطاع الزراعي الذي كان يملك فيه 0.4% من الملاك (50 فدان فأكثر للمالك) 34% من الأراضي الزراعية، بما يعادل تقريبًا مجموع ملكية 94.3% من الملاك (أقل من خمسة أفدنة للمالك) عام 1952م، والتي لم تتناول قوانين الإصلاح الزراعي منها سوى 12% من الأراضي حتى عام 1959م، نجد أن الصناعة كانت تعيش استقطابًا هائلًا من بضعة منشآت احتكارية ضخمة ضمن بحر من المنشآت الصغيرة والقزمية، فظلّت نسبة المنشآت المتوسطة (من 50 إلى 500 عامل)، والتي تمثّل أحد أهم معايير تعمّق التصنيع، تدور حول 18% بين عاميّ 1952 و1961م، فيما انخفضت نسبة مساهمة المنشآت الكبرى في التوظيف الصناعي من 83% من مجموع العمالة الصناعية عام 1950م إلى 60% عام 1957م؛ ما يعكس آثار الاحتكارية وتشبّع السوق على سوق العمل.
ثانيًا: على جبهة الإطار المؤسسي، نجد حالة غياب للمنظم الرأسمالي وقلة في المرونة الإنتاجية والسوقية وإمكانات التطور التنظيمي، فمؤسسات سياسية غير مرنة لم تنجح الثورة في استبدالها أو تعديلها بشكل حقيقي، وغلبة لشكل محدود الأفق والقدرة الإنتاجية والمالية من التنظيمات الاقتصادية، المُنقسمة ما بين أقزام حرفية وعماليق عائلاتية! وأخيرًا على مستوى الحوافز أنماط استهلاك لا تناسب مستوى التطور الاقتصادي والاجتماعي، وحوافز ادخار واستثمار محدودة كمًّا وكيفًا، وتكاليف صفقات مرتفعة بحكم انخفاض مستوى ونوعية رأس المال الاجتماعي والبشري؛ بما يضّعف العمل من خلال السوق الحرة، بل ويعوق تطورها!
ثالثًا: من جهة الفضاء السوقي، اتسم بالضيق، سواءً في حجمه الخام كسوق داخلي، أو في حجمه الصافي الناتج عن علاقة السوق الداخلي بالخارجي، ما يرجع لضعف الجهاز الإنتاجي على ما سبق ذكره، واستقطابيته الشديدة المُنعكسة في توزيع دخول مختل يخلق هيكل طلب استقطابي لا يدعم التنمية الصناعية المُستقرة، فضلًا عن ضعف حجمه بسبب سوء التوزيع، وغلبة الاحتكارية التي تكبح نمو الأسواق وتضعف سيولة تحويل الموارد عبر الأسواق المختلفة استهلاكًا واستثمارًا؛ ما يخلق اختلالًا بين الطلب الكلي والعرض الكلي المحليين، وتعزيز تبعية الفضاء السوقي واختراقه من الخارج؛ بما أدخله في حلقة حلزونية من الضعف، يتبادل فيها ضيق الفضاء السوقي واختلاله مع ضعف الهيكل الإنتاجي واستقطابيته التأثير والتأثر؛ بما يعزز في النهاية ركود الهيكل الاقتصادي في مجموعه وتبعيته؛ وبالتالي ضعف نموه الكمي وتطوره الكيفي.