مجدي عبد الهادي يكتب | الاقتصاد المصري في نصف قرن (3)
يمكن بجمع كل ما سبق في النقالين السابقين من هذه السلسلة أن نستنتج السمات والتفسيرات الآتية للهيكل الاقتصادي المصري خلال فترة ما قبل ثورة يوليو وأواخر الخمسينات:
1. عانى الهيكل الإنتاجي من التناقض بين ضعفه الكمّي وتطوره الكيفي–الشكلي لا غير-، فبينما كان له حجم وقدرات رأسمالية صغيرة ناشئة، كان له شكل وسمات رأسمالية احتكارية متطورة؛ ما أفقده المزية الكيفية الأساسية للرأسمالية الناشئة (المنافسة العالية)، والمزية الكمّية الأساسية للرأسمالية المتطورة (ارتفاع الإنتاجية)!
2. خنق هذا الطابع الاحتكاري تطوّر هذه الرأسمالية في مرحلة مُبكرة من وجودها؛ فلم يعد يحمّل الشعب فقط بتكاليف الاحتكار (كمّ إنتاج أقل بأسعار أعلى=مستوى معيشة أقل)، بل فعل ذلك أولًا في سياق متخلف لا يحقق حتى مزاياه الموازية في العالم المتقدم من تطوير تكنولوجي وتنظيمي، وثانيًا بتبعية تكنولوجية للخارج، وثالثًا وهو الأهم بخنق تطور تلك الرأسمالية الناشئة قبل الأوان، وإبقائها في مرحلة الصناعات الاستهلاكية الخفيفة.
3. أدى هذا الخنق الاحتكاري المُبكر لخنق نمو الصناعة، والذي أدى مع تقلّص فرص النمو التشغيلي في الزراعة، إلى حالة تحضّر رثّ، يهجر ضمنها الريفيون القرى إلى المدن بحثًا عن فرص عمل صناعية غير موجودة؛ ما أدى لتضخّم سرطاني مُبكر للتشغيل الخدماتي محدود الإنتاجية والمهارات، فضلًا عن تضييق لفرص الاستثمار عمومًا دفع للاتجاه للنشاطات المضاربية والاكتنازية والهروبية، كإعادة تدوير الفوائض في الأرض الزراعية وفي بناء العقارات وما شابه؛ ما هدّد بزيادة سلطة ملاك الأراضي والعقارات من جهة، وزاد من ميل رجال الأعمال لعدم الاستجابة لدعوات الحكومة المتتالية للاستثمار الصناعي من جهة أخرى.
4. أدى التكوين السابق لاختلال العلاقة بين رأس المال الثابت ورأس المال العامل على مستوى مُجمل الاقتصاد، فالاحتكارية (وبالتالي عدم مرونة النمو الإنتاجي)، وغلبة الاستهلاكية (أي سيطرة الصناعة الخفيفة التابعة)، وتورّم الخدمات (محدودة التكوين الإنتاجي بطبيعتها)، أدت مُجتمعًة لاستمرار انخفاض التكوين الرأسمالي أو التكوين العضوي لرأس المال (أي نسبة رأس المال الثابت إلى مُجمل رأس المال المادي)؛ ومن ثم استمرار انخفاض الإنتاجية وبطء تطور التنظيم والمهارات الإدارية، فضلًا عن غياب آفاق التطور التكنولوجي.
5. انعكس هذا الاختلال بين نوعيّ رأس المال كذلك في اختلال بين العرض والطلب على المستوى السوقي، بما له من آثار سلبية على التوازن التجاري (اختلال مُزمن بين الواردات والصادرات لصالح الأولى)، والتوازن المالي (اختلال مُزمن بين الإيرادات والنفقات الجارية لصالح الثانية)، وبالتفاعل مع الاختلالين السابقين على التوازن النقدي (اختلال مُزمن في علاقة العملة المحلية بالعملات الأجنبية وبالإنتاج المحلي)؛ ما جعل تحرير هذه الأسواق من التدخل الحكومي مُخاطرةً كبرى!
6. أدت غلبة الخدمات لسوق عمل هشّة ومُجزأة، ولعدم تبلور وتجانس معقول للطبقة العاملة؛ ما أعاق نمو المُكون الماهر في الطبقة العاملة بما له من آثار تراكمية على النمو في الأجل الطويل من جهة، ولم يوفّر أرضية اجتماعية للتحوّل الديموقراطي مُستقبلًا من جهة أخرى.