محفوظ بجاوي يكتب | التعليم بين التلقين والجمود

0

ما من أمة ارتقت، وما من حضارة نهضت، إلا وكان التعليم عمادها، والمعرفة سُلّمها، والعقل حادي ركبها. فبالعلم تُشيَّد المدنيات، وتُؤسَّس الدول، وتُصان القيم، وتُفتَح أبواب المستقبل على مصاريعها. غير أنّ القوم، في ديارنا، لم يُدركوا بعدُ هذا الأصل المتين، ولم يجعلوا من التعليم مشروعًا وطنيًا جامعًا، بل تركوه نهبًا للعشوائية، وأسيرًا للجمود، رهينًا للتلقين الأجوف. الطفل منذ نعومة أظفاره يُلقّن أن الخطأ عيب، وأن السؤال جريمة، وأن التفكير المختلف ضرب من الوقاحة. فإذا أبدى الطفل رأيًا، قيل له: “اصمت، لا تُجادل”. وإذا أخطأ في جواب، ضحكوا منه، أو عاتبوه بعبارات تحفر في وجدانه: “ألم تستمع؟ ألم تحفظ؟”.
وهكذا، ينشأ فكرٌ مكموم، وعقلٌ مرتجف، يخاف المبادرة، ويتجنب السؤال، ويتربّى على الخضوع. يُصبح الخطأ مصدر خجل، لا فرصة تعلُّم، ويتحوّل الامتحان إلى شبح، والمعلم إلى سلطة لا تُناقش، والجواب الصحيح إلى قيد ذهبيّ على حرية التفكير. وإذا نظرنا في حال المعلمين، وجدنا أن كثيرًا منهم، مع كامل الاحترام، لم يُعدّوا ليكونوا مشاعل فكر، ولا مشرفين على نموّ العقول، بل جرى إعدادهم بمنطق إداري بحت. دخلوا المهنة لا بدافع الشغف، بل أحيانًا اضطرارًا، ووجدوا أنفسهم في صفوفٍ يُطلب منهم فيها “ضبط النظام”، لا إشعال الأسئلة، وتقديم المعلومة، لا تحرير الفكر.
وفي ظلّ هذا المناخ، يغدو المعلم نفسه مأسورًا داخل دوائر الخوف والتكرار. فهو، وإن امتلك شيئًا من الطموح الفكري، يَئِس من نظام لا يُكافئ الاجتهاد، ولا يُفسح للمبادرة، ولا يحمي حرية التجريب. أضف إلى ذلك أن المناهج الدراسية، في معظم دولنا، كُتبت بعقلية الماضي، لا بروح الحاضر ولا بعيون المستقبل. هي نصوص أشبه بما يُحشى في القِرَب القديمة: جامدة، محفوظة، بعيدة عن واقع الطالب، منفصلة عن حاجاته، لا تسعى إلى تدريب ذهنه على التفكير، بل تحشوه بالمعلومات كما يُملأ الصندوق، دون أن تُعلّمه كيف يفتح ذلك الصندوق أصلًا.
ولا عجب إن كانت المدرسة، في ظلّ هذا كلّه، مكانًا طاردًا للروح، خاليًا من الدهشة، باهتًا في شكله ومضمونه. فهي جدران صارمة، وسبّورات باردة، ومقاعد متقاربة تُكدّس التلاميذ، وتَخنق الخيال. ليس فيها مختبرات حيّة، ولا مكتبات نابضة، ولا أنشطة تُنعش العقل والجسد معًا. الطالب يدخلها طفلًا حيويًا، ويخرج منها شابًا مطبوعًا، يُجيد الصمت والتكرار، ويخاف التجريب والتفكير.
ثم إذا تخرّج – إن تخرّج – وامتلك شيئًا من التميز أو الحسّ النقدي، صُدم بسوق عمل لا يعترف بالموهبة، ولا يقدّر الكفاءة، بل يُقيم الأمور على أساس الوساطة والانتماء والولاء. فلا يجد المبدع مكانًا، ولا يجد الحالم أفقًا، ويجد الحاصل على شهادة عليا نفسه في طابور البطالة، بينما يتقدّم من لم يعرف من العلم غير اسمه.
ما نعيشه اليوم ليس أزمة مناهج فقط، ولا قصورًا في تمويل التعليم، بل هو خلل عميق في فلسفة التعليم ذاتها. نحن لا نُربّي مفكرين، بل نُخرّج حافظين. لا نعلّم السؤال، بل نُقدّس الجواب. لا نُطلق العقول، بل نُطوّقها بإجابات مقدّسة لا تقبل الشكّ ولا التعديل.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.