محمد الفقي يكتب | أوليفر ستون.. سينما تتخفى وراء قضية (1 – 2)

0

لا يمكننا كتابة تاريخ سياسي لأمريكا بمعزل عن أفلام أوليفر ستون، مثلما لا يمكننا كتابة تاريخ اجتماعي لها بمعزل عن أفلام جريفث، وجون فورد، وفريدرك وايزمان، ومايكل مور. نجد أقوى بلورة لتلك الحقيقة بمشاهدة الحلقات الوثائقية التي صنعها ستون (التاريخ غير المروي للولايات المتحدة Untold History of the United States، 2012)، والتي لا يمكن فهم التاريخ السياسي المعاصر لأمريكا فهماً حقيقياً دون مشاهدتها. ونجدها أيضاً في فيلميه (جون كينيدي JFK، 1991)، و(نكسون Nixon، 1995)، اللذين أوغرا عليه صدور غلاة الحزبين الجمهوري والديمقراطي على السواء، ومواليهم من النقاد وكتاب الأعمدة.
الأعمال الآنفة، وفوق أنها رفيعة المستوى متقنة الصنعة، لم ُتصنع إلا بعد جهد بحثي استقصائي طويل ومكثف وأمين. رأس المال المعرفي هذا، والخبرة بمادة العمل، هما ما يرفعان مستوى العمل الفني ليصبح عظيماً. سنعثر دائماً على هذه الخبرة العميقة في كل ما يصنعه من أعمال. لا يذهب ستون إلى أي مكان دون أن يعود إلى خبرته ورأس ماله المعرفي.
وُلد أوليفر ستون عام 1946، لعائلة ثرية تقطن مدينة نيويورك، ولأب يعمل سمساراً في البورصة. بعد أربعين عاماً، استعمل ستون خبرته وذكرياته عن والده ومهنته في صنع (وول ستريت Wall Street، 1987)؛ أهم ما صُنع في السينما العالمية عن النيولبرالية والآليات التي تحركها؛ الجشع المالي، والخداع والغش، واستباحة أي قيم أو مبادئ أو مثل عليا من أجل توليد الأرباح. ثم ألحق به جزءًا ثانياً (وول ستريت: المال لا ينام أبداً Wall Street: Money Never s، 2010)، عقب حدوث أزمة الرهونات العقارية عام 2008، والتي طالت تبعاتها المالية والاقتصادية كل أرجاء العالم، نتيجة السياسات والآليات التي استشرفها ستون مبكراً في الجزء الأول.
في سن العشرين، وقبل أربع سنوات من التحاقه بمدرسة السينما بجامعة نيويورك ليتعلم صناعة الأفلام على يد عرق من أعراق الصناعة؛ هو مارتن سكورسيزي، جُند ستون في الجيش الأمريكي في عام 1967، أثناء حرب فييتنام، فشارك في صفوف الجيش، وشهد المشاهد، وأبلى فيها حتى مُنح ثلاثة أوسمة في الشجاعة.
لعل تلك الخبرة هي ما شكلت وعيه في صدر شبابه، وفتحت عينيه على السياسات الاستعمارية الأمريكية في دول العالم الثالث، وأساطيرها الزائفة التي تبرر بها حروبها من أجل مصالح طبقة ضئيلة الحجم من أباطرة المال والأعمال تسيطر على مفاصل السياسة الأمريكية وتتحكم في كبار رجالاتها. وكأنه تجسيد حي لمقولة بام التي قالتها في فيلمه (الأبواب The Doors، 1991): يصبح المرء نابضاً بالحياة حين يواجه الحقيقة، لأنه عندئذ يتعرف على معنى الحياة بصورة أعمق.
نلحظ بوضوح أن ستون قد عثر في خبرته في فييتنام على مادة غنية لتصوير السياسات الأمريكية وآثارها المدمرة على المجتمع الأمريكي ومجتمعات دول العالم الثالث، وعلى الأفراد من كلا الجانبين، على حد سواء. نجد صور من ذلك في أفلامه: (سلفادور Salvador، 1986)، و(الفصيلة Platoon، 1986)، و(وُلد في الرابع من يوليو Born on the Fourth of July، 1989)، و(الجنة والأرض Heaven & Earth، 1993)، إضافة إلى الحلقات الوثائقية الممتازة (التاريخ غير المروي للولايات المتحدة) التي تقدم ذكرها.
من يستقصي أوليات حياة أوليفر ستون، قبل مشاركته في حرب فييتنام، يجدها شبيهة بالصورة التي رسمها في أفلامه للجنود الأمريكيين الذين تطوعوا لخوض الحرب بدوافع الوطنية والشرف والدفاع عن الحرية. خصوصاً في فيلميه (الفصيلة)، و(وُلد في الرابع من يوليو.) لكنا نراه بعد أن عاد من الحرب وقد نضج وعيه وتفتح، مثل هؤلاء الجنود أيضاً. ولعل طابعه القتالي ونزعته إلى البطولة هما سبب رفضه الاكتفاء بالقناعة الشخصية لذاته فقط، والإصرار على تمريرها إلى المشاهدين في أمريكا والعالم أجمع. يقول الجندي كريس في (الفصيلة):
لم نكن نحارب العدو، كنا نحارب أنفسنا، كنا نحن أعداء أنفسنا، وعلينا، نحن من نجونا من حرب فييتنام، التزام بأن نخبر الآخرين بما عرفناه هنا لكي نستمر في عيش ما تبقى لنا من حياة، وأن نحاول العثور على الخير والمغزى من وراء هذه الحياة.
فن السينما عند أوليفر ستون هو فن التنوير. وستون نفسه أقرب إلى توصيف جرامشي للمثقف العضوي الذي يستهدف التنوير، وحياته هي صورة مثلى لحياة الفنان العضوي الذي يأخذ على عاتقه مهمة تبصير العامة، مؤمناً بأن السينما أهم وأخطر من أن ُتصنع للتسلية أو للتربح المالي، بل يجب أن ُتصنع الأفلام بصورة أكثر جدية وأكثر مسؤولية، كما قال المخرج السويدي الكبير روي آندرشون في كتابه (زمننا الذي يخشى الجدية، 1990.) تشهد سينما أوليفر ستون له بأنه أكثر السينمائيين المعاصرين كرماً في إمطار التنوير مطراً، عله يصادف موضعاً يؤثر في وعي المشاهدين ويفتح عيونهم فيوقظ الغفلان.
يحسن هنا أن نشير إلى أن أوليفر ستون، وعلاوة على أنه يُعد في التنويريين في السينما، والتنويريون قلائل، وفوق أنه لم يصانع هوليود، وإنما جاهر برأيه وفكره، منكراً السياسات الاستعمارية، ودسائس ومؤامرات السياسة الأمريكية، والنيولبرالية واقتصاد السوق وقيمه الاستغلالية، إلا أن مذهبه في تقديم سينما رزينة لم يكن على حساب الصنعة والحرفة والأسلوب، بل هو عندنا من أسطوات الصنعة، ويحق لنا الجزم بأنه من أهل البيان والتبيين؛ شريف في الصنعة، شريف في الغايات. هو فنان كريم العنصرين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.