محمد حمادى يكتب | المولد .. جزء من الهوية الثقافية والفنية المصرية

0

“ولد الهدى فالكائنات ضياء.. وفم الزمان تبسم وثناء”، فما أجمل أن نستشعر جميعا فى هذه ذكرى المولد النبوي الشريف العطرة والخالدة تاريخ العزة والكرامة والإنسانية ومكارم الأخلاق، التى للأسف أصبح الكثير بعيدا عنها فى ظل غزو يستهدف العقول والقلوب وضرب القيم والثوابت الثقافية والأخلاقية فى مقتل.

مرت مصر عبر العصور بالعديد من أنواع الفنون التي أثرت الثقافة المصرية من هذه الفنون (الفن المصري القديم – الفن القبطي – الفن الإسلامي – الفن الشعبي) وغيرها من ملتقى الثقافات ويعتبر الفن الشعبي ” تعبير صادق عن انفعالات الشعب ينفس بها عن آلامه وآماله تعتبر الموالد الشعبية من أكثر العادات حضوراً وبهاءً في الثقافة الشعبية المصرية، ففيها تتجسد أبرز التقاليد وتكشف الكثير عن ملامح هذا الشعب ، يقول المثل الشعبي «من فات قديمه تاه»، واللى مالوش ماضى مالوش حاضر وقديم الإنسان هو تراثه وتاريخه، فالشخصية المصرية هى حصيلة التقاء ثقافي فريد، وإسهام حضاري فذ، وتاريخ ممتد، تواصلت فيه مصر مع غيرها وأنتجت شخصية مصر التراثية التى نبعت من حواريها وشوارعها وأقاليمها المختلفة ، وأفرزت تفردها وعبقريتها التى ظهرت من خلال كافة أشكال الفنون التراثية التى تزخر بها مصر.. حكايات أبو زيد الهلالى وعاشق المداحين والست خضرة والسقا والأراجوز والحكواتى وع الأصل دور وخليك فاكر مصر جميلة.

تاريخيّاً، دخلت الموالد الشعبية إلى مصر على أيدي الفاطميين، في القرن العاشر الميلادي. وتؤكد الكثير من المراجع التاريخية والدراسات الأدبية مثل “موسوعة مصر القديمة” للمؤرخ سليم حسن، وكتاب “الموالد والتصوف في مصر” لنيكولاس بيرخمان، أن الاحتفالات الشعبية بموالد الأولياء والقديسين امتدادٌ تاريخي لما كان يفعله قدامى المصريين في احتفالاتهم بموالد الفراعنة والآلهة، والتي كان من أهم ملامحها تقديس صاحب المولد المحتفل به. كما تشير المراجع إلى أن الكرامات والخوارق المنسوبة للأولياء والقديسين تتشابه كثيراً مع ما يحكى عن معجزات وخوارق تنسب للآلهة المصرية القديمة.

وتتميز الموالد بإقامة الاحتفالات وهذه الاحتفالات لها مظاهر متعددة فى أيام الاحتفالات والموالد ، الفن الشعبي وقد تجلى في صفاته الأولي إذ يتمثل في صورة عرائس الحلوى ، وما أروع المناظر هذه الحلوى التي تمثل أشکالا وحيوانات ، رصت على مدرجات خشبية يرنو إليها الأطفال بأنظارهم ، وتصبو إليها قلوبهم .
من مظاهر الاحتفال بالموالد أيضاً مظهر من مظاهر المولد مثل التحطيب والشد والسحب والصيد والجري ، القفز ، المسك ، الاختفاء ، ألعاب التوازن ، وقد تميزت موالد الوجه القبلي بألعاب ” الخيل ورقصته وکانت تعبيراً عن الفرحة بالمولد، واشترك فيها بعض الحاضرين إلي ( الموالد ) من مناطق قريبة بخيولهم ، ومن الألعاب الشعبية أيضاً التي تنتشر في المولد الألعاب النارية ، ألعاب الحظ ، وألعاب الأطفال کالمراجيح ،کل هذه المظاهر تستطيع أن تثرى خيال الفنان ليبدع أعمالاً تصويرية جديدة تستطيع الحفاظ علي التراث الشعبي.
وهذه الدراسة تبحث بعض الفنون الشعبية التي ظهرت في الموالد والتي من خلالها يمکن استحداث أعمال تصويرية جديدة تعمل علي الحفاظ علي الموروث الشعبي، وارتبط الفن الشعبى فى مصر باسم أحد رواد الفن الشعبي المصري وهو زكريا الحجاوى الذى تنقل بين الموالد والأسواق والقرى والنجوع في ريف مصر باحثا عن تحفة فنية أو صوت حقيقى واعد يكتشفه ويعود به إلى القاهرة ليقدمه إلى النجومية.. كان يرى أن الفن ولد في مصر والتاريخ لا يزال طفلا يلعب بين أهراماتها ، ومع الهجرات والأجناس الوافدة على مصر والخارجة منها هاجر الفن من مصر إلى بلدان المنطقة ولكن عوامل كثيرة جعلت من فنون هذه البلاد فنا قوميا محليا. قال عنه صلاح جاهين “إنه يشبه سقراط والحواريون حوله ” ووصفه يوسف إدريس بأنه رائد القصة القصيرة الواقعية، ولقبه النقاد بعاشق المداحين، دخل الحجاوي الإذاعة بتمثيلياته ومسلسلاته ، وكان زكرياعاشقا للقراءة أسيرا للأساطير الشعبية،.. تتبع خطوات الشيخ سيد درويش وغنى بصوته الأجش كثيرا من مقطوعاته في جلسات بين أصدقائه.. ثم احترف الصحافة وبدأ في كتابة القصة القصيرة والنقد والبحوث الفنية.

صورة أخرى عبَّر عنها الشاعر الكبير صلاح جاهين في رائعته “الليلة الكبيرة”. نقل جاهين كل تفاصيل المولد الثرية، بدقة شديدة تُظهر تأمله العميق في التراث الشعبي المصري. ووصف جمهور المولد المتنوع بين الفلاحين والصعايدة وأهل القنال، الذين يتركون منازلهم كل عام متجهين إلى القاهرة للاحتفال بالمولد ، لتزدحم الساحات الأمامية للمسجد بخيام أهل الريف والجنوب المصري التي حملوها معهم.
كما وصف جاهين الأجواء راسماً لوحة نابضة بالحياة للمظاهر الاحتفالية بالموالد وما تتضمنه من فولكلور شعبي مثل “الأراجوز، وبائع البخت، والمراجيح، والرايات الملونة، والملاهي، ورفع الأثقال والنيشان، والحاوي”. وببراعة تحدث عن أشهر المأكولات التي أصبحت جزءاً أساسيّاً في ثقافة الموالد لدى المصريين فيقول: “حمص حمص تل ما ينقص عالنار يرقص يرقص ويقول دا اللي شاف حمص ولا كلش حب واتلوع ولا طلشي”.
وتعبيراً عن فوضوية المولد يقول جاهين:” يا ولاد الحلال بنت تايهة طول كدا رجليها الشمال فيها خلخال زي دا”. ويستوحي من التراث:” يا أم المطاهر رشي الملح سبع مرات، في مقامه الطاهر رشي وايدي سبع شمعات”.
يزدحم المولد بعرائس الحلوى، والسيرك وألعاب الأطفال، كل ذلك يرصده جاهين في رائعته قائلاً:” فوريره للعيّل ، يا أبو العيال ميل، خدلك سبع فرارير، زمارة شخليلة ، عصفورة يا حليلة، طراطير يا واد طراطير ” ويواصل:” الليلة الليلة السيرك تعالوا دي فُرجة تساوي جنيه قولو هيه “.
ويبرع جاهين حين يصف الليلة الكبيرة، آخر ليالي المولد، والتي يصل فيها الاحتفال إلى الذروة: “الليلة الكبيرة يا عمي والعالم كتيرة مالين الشوادر يابا من الريف والبنادر”. ويُختتم الأوبريت الشهير بأذان الفجر والصلاة.
وكان المولد فى الماضى مركزا ثقافيا مهما ، فقد تعلم منه عظماء مصر سواء فى الغناء والتمثيل أو الشعر أو حتى فى مجال السيرك ، فعلى سبيل المثال ظهر في الموالد “الأدباتي” وهو الزجال الموهوب، اللي بيحكي حكاوي فيها سخرية ونقد وتجريح، وساعات كان بيحصل بينهم تحدي في الزجل ده، وكان ليه جمهور بيشجع اللي بيعجبه من الكلام. وظهر كمان “القافيجية”، وهما فنانين عندهم قدرة على وصف بعضهم بسخرية، وهما اللي نشروا كلمة “اشمعنى” كقافية، وكان أشهرهم حسين الفار وسلطان الجزار ، أما الظاهرتين الأكتر ظرف هما البهلوانات وعازف البيانولا ،وكانوا الاتنين بيلعبوا أكروبات على الأرض، وبارعين في حكي القصص التمثيلية الكوميدية القصيرة، الموالد اتحولت لعيد عند بعض المصريين وكانت القهاوي والسيرك هي السبب لإنه كانت بيتعرض فيها كل الفنون لجذب الناس لها. ووأشهر الموالد اللي شهدت ده كانت مولد الحسين، والسيدة زينب، والسيد البدوي، والمرسي أبو العباس، وسيدي شبل، وأبو المعاطي، والسيدة العذراء في بني سويف.
وقد أفرز لنا المولد المصرى عمالقة فى الفن والأدب فى مصر والعالم العربى مثل 🙁 أم كلثوم ، محمد عبد الوهاب ، محمد فوزى ، يوسف وهبى ، عبد المنعم مدبولى ، صلاح جاهين ، عبد الرحمن الابنودى وغيرهم ) الكثير والكثير فى مجال الفن والابداع الذين أثرو الحياة الفنية والثقافية فى مصر والعالم العربى حتى يومنا هذا ، فالمولد فى مصر ليس فقط شعيرة دينية فحسب بل رحلة وجدانية بين العقل والروح وبحر غزير من الثقافة والفن لمن يريد أن يبحر فيه .

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.