محمد رأفت أبو المعاطي يكتب | الشائعات وحروب تكسير العظام

0

الإشاعة، هي تلك الأخبار الزائفة غير الحقيقية، التي تنتشر في المجتمع بشكل سريع، وتتداول بين العامة، ظنًا منهم صحتها، ودائمًا ما تكون هذه الأخبار شيقة، وتداعب فضول المجتمع، وتفتقر عادةً إلى المصدر الموثوق، الذي يحمل أدلة على صحة الأخبار، وتمثل هذه الشائعات جُزءًا كبيرًا من المعلومات، التي نتعامل معها، في إحصائية أن نسبة 70% من تفاصيل المعلومة، تسقط في حال تناقلها من شخص إلى شخص، حتى الخامس أو السادس من مُتواتري المعلومة! نستطيع أن نشبهها بأنها قطرة من اللبن في الماء، تشيّعت وتفرقت!.
انتشار المعلومات المغلوطة بغرض البلبلة، وإرباك الخصوم، هو أمر ليس بجديد، فهو موروث قديم، عمره هو عمر الحروب نفسها، ففي كل حرب، يسعى العدو دومًا لهدم الجبهة الداخلية، وإشاعة البلبلة فيها، وبث روح الفرقة في الشعوب، وقطع رباط الثقة بين الشعوب وقياداتها، بحيث يصنع منها جبهة جديدة، ينشغل بها عدوه، فالهزيمة النفسية، هى الطريق الأمثل للوصول إلى الهزيمة القتالية في علم الحروب، وتاريخيًا الشائعات، لعبة، برع فيها التتار، الذين كانت تسبقهم الشائعات، التي ابتكروها، والتي تبالغ في قوتهم، وبأسهم، وجبروتهم، لكى ترهب عدوهم من قبل حتى أن يواجههم، ونجحت الشائعات، التي بثها الألمان، في الشعب الروسي، إبان الحرب العالمية الأولى، في إشعال، وإذكاء جذوة الثورة الروسية، التي كان على رأس مطالبها، الانسحاب من الحرب، ثم جاءت الحرب العالمية الثانية، وجاء معها الفكر النازي، الذى أدرك أهمية الدعاية والشائعات، حتى أنه أنشأ، وربما لأول مرة، وزارة البروباجاندا، أو الدعاية، والتي رأسها (جوزيف جوبلز)، أحد مؤسسي علم الشائعات، المعروف الآن، وأصبحت الشائعات فنا من فنون عالم الجاسوسية، له تقسيماته وأنواعه وتأثيراته، ولكل شائعة من تصنيفاته مهمة، وغاية، وهدف، يجعلها أحد فنون الحياة، وفنا عميقا أيضًا، يدرك كيفية استخدام الشائعة الصحيحة، في الوقت الصحيح، لبلوغ الهدف، وتعتمد الشائعات، بتصنيفاتها كافة على قاعدة أساسية، توصّل إليها خبراء علم النفس، منذ سنوات وسنوات، القاعدة تقول: «إن الناس مستعدون لتصديق الكذب، مهما بدا زيفه، إذا ما صادف هواهم، وتكذيب الصدق، مهما بلغ وضوحه، إذا ما خالف هواهم».
وأتذكر حديثا مع صديق أمريكى مقيم فى مصر منذ سنوات، سافر قبلها عدة دول عربية بين منح دراسية، وأبحاث علمية فى مجال عمله، حدثنى عن الفارق بين المواطن العربى، ونظيره الأمريكى، فى استقبال المعلومة، حيث وضح لى أن الفارق، هو فى تحرى دقة المعلومة والبحث، بينما المواطن العربى، يردد الخبر أو المعلومة دون بحث عن أصولها، أو حتى مصداقيتها. حديثه معى جعلنى أتساءل، لماذا نحن لا نفكر عن مصدر موثوق، أو حتى نتحرى مصداقية الخبر، أو المعلومة التى نتداولها ونرددها؟. ومع الانفتاح والتطور المهول فى عالم تكنولوجيا الاتصالات، والتواصل الاجتماعي، أصبح كل منا يمتلك منبرا، يستطيع أن يروج من خلاله أى معلومة أو خبر، وينتشر بسرعة الصاروخ بين الجميع، والتحول الخطير فى هذا الأمر، هو اعتماد بعض وسائل الإعلام على مصادرها من مواقع التواصل الاجتماعي دون تحرى المصداقية، أو أساس الخبر والمعلومة.
الإشاعات من أهم أساليب ووسائل الحروب النفسية والاجتماعية، لأنها تستعمل في وقت الحرب، وكذلك وقت السلم، وتتميز بشدة تأثيرها على عواطف الجماهير، وقدرتها الكبيرة على الانتشار، وفاعليتها العظيمة، التي تبدأ منذ وصولها إلى المكان الموجه إليه، وقد أظهرت دراسات عديدة على تفوقها عن الحروب العسكرية، ومدى خطورتها على تفكك المجتمعات، وبث الفتنة بين أفراد المجتمع. وفى بعض الأحيان، تقٌّيم قوة المجتمعات من خلال مدى انتشار الشائعات من خلالها، فالأكيد المجتمعات الأكثر وعيًا، تقف فيها الإشاعة، لا تنتشر، نظرًا لتحرى مصداقية المعلومة من قبل المواطن والبحث عن مصادر موثوقة. وفى مصر نحتاج للتدقيق كثيرًا قبل نقل أى خبر أو تداوله، ونسأل أنفسنا عدة أسئلة عند السماع بأى خبر أو معلومة، هل هذا الخبر منطقى؟ وفى مصلحة من هذا الخبر ؟ وكيف ستكون ردود الأفعال حيال انتشاره؟ ثم الرجوع لمصادر عديدة للتأكد، فهذا هو دور الفرد فى المجتمع، ويبقي الدور الأهم للسلطة التشريعية فى ضرورة إخراج تشريع لتشديد العقوبة على كل من يروج معلومة غير صحيحة، بينما تُمارس السلطة التنفيذية دورها فى ضرورة إنشاء جهاز إعلامى قوى، يتمتع بالشفافية، ويبنى جسور الثقة بين المواطن والدولة فى نقل الأحداث، ومواجهة الأكاذيب، فالحروب لم تعد عسكرية، بل أصبحت حروبا نفسية ومعلوماتية، أصبحت حروب تكسير العظام، وتحطيم المعنويات والإرادة فاحذروها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.