محمد سالم يكتب | التغير المناخي والطاقة والأمن الغذائي
تصاعدت في الآونة الأخيرة المخاوف من التضخم في الاقتصاد العالمي بسبب الزائر الثقيل على كوكب الأرض “التغير المناخي”، حيث أضحى هذا الكابوس مسببًا واضحًا لأزمة في سلاسل الإمداد والتوريد العالمية، وتضخم غير مسبوق في أسعار الغذاء والطاقة، وسط مستقبل مخيف.
بإمكانك أن ترى عواقب هذا الزائر الكابوس، بداية من أمريكا اللاتينية مثلًا، حيث تعثُر على أنقاض ثاني أكبر حوض مائي بالقارة، “نهر بارانا” البالغ طوله 4 آلاف كيلومتر والذي يمر من البرازيل والأوروجواي وصولًا للأرجنتين يعاني من أكبر موجة جفاف في تاريخه، ونتج عن ذلك إتلاف مساحات شاسعة من المحاصيل الزراعية، وكلف المزارعين ومصدري الحبوب تكاليف إضافية تتخطى الـ 300 مليون دولار بحسب رويترز. فضلًا عن أن انخفاض منسوب النهر يقلل من حجم حمولات الحبوب بالسفن العابرة للنهر، ما أدى لارتفاع تكاليف النقل، وبزيادة الطلب وقلة المعروض ارتفعت أسعار الحبوب عالميا بنسبة 27%.
بحسب تقرير حديث لمنظمة الأغذية والزراعة “الفاو”، ارتفعت أسعار المواد الغذائية لأعلى سعر لها في خلال عقد تقريبا بارتفاع أسعار الحبوب والزيوت والألبان والسكر والقمح نتيجة تراجع حجم الانتاج، وساهم في ذلك عوامل عدة ما بين فيضانات وجفاف وحرائق، ففي روسيا صاحبة الإنتاج الأغزر من القمح في العالم، تقلص محصولها بشدة نتيجة ارتفاع درجات الحرارة وبالتالي ارتفعت أسعار القمح الروسي في الموسم الحالي لأكثر من 30%، وتبع ذلك ارتفاع أسعار القمح بنسبة 40% في العديد من الدول المنتجة الأخرى مثل أمريكا.
هل كانت هذه التغيرات مفاجئة؟ الإجابة القاطعة لا فدرجة حرارة الأرض وصلت لأعلى مستوياتها بمقدار 1.1 درجة مئوية، مقارنةً بمتوسط درجات الحرارة بين عامي 1850 و1900، وهو معدل ارتفاع لم تشهده الأرض منذ 125 ألف عام.
في عام 2018 نشر تقرير بموقع “ذا كونفرسيشن” الأمريكي، يتحدث فيه الخبير الاقتصادي ديريك ليموان، عن أن اقتصاد الولايات المتحدة والعالم بأكمله سيتأثر بارتفاع درجات الحرارة والتغير المناخي عبر عدة أوجه، منها تراجع المحاصيل حينما ترتفع درجات الحرارة لأكثر من (29 – 32) درجة مئوية، وتتأثر بذلك محاصيل القمح وفول الصويا والذرة، واستشهد ليموان بانهيار إنتاج القمح الروسي في 2010 بسبب موجات الحر التي ضربت البلاد آنذاك.
في ذات السياق هناك تقرير أممي آخر من “الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ” في مسودة غير منشورة نشرتها وكالات صحفية فرنسية وعربية، يتنبأ بحدوث تغيرات عدة في حجم وجودة وكثافة المحاصيل الزراعية، بسبب انخفاض متوسط هطول الأمطار في جميع أنحاء إفريقيا جنوب الصحراء، وكذلك من المحتمل أن تصبح 40% من مناطق إنتاج الأرز في الهند أقل ملاءمة لزراعة هذا المحصول.
في سياق متصل، يساهم النمط الاقتصادي العالمي حاليًا والذي يعتمد بشراهة على الوقود الأحفوري في إبطاء عملية مكافحة التغير المناخي. حيث أن العالم والذي شُيدت بنيته الصناعية في القرن الماضي بالاعتماد على الوقود الأحفوري، مازال يواجه صعوبة شديدة في الانتقال نحو أنماط مستدامة من الطاقة النظيفة والمتجددة.
لاسيما مع الاضطراب الشديد مؤخرًا في أسعار الطاقة، حين تخطى سعر برميل البترول 83 دولارًا في نوفمبر الماضي، بينما كانت الأسعار شديدة الانخفاض عند مستوى 20 دولار في 2020، ومع ارتفاع الطلب بعد زيادة حجم اللقاحات وعودة الأنشطة الاقتصادية بشكل كبير، ظهرت أزمة النفط، والتي يمكن أن نُحيل أسبابها كما يراها العديد من المتخصصين في الطاقة، نتيجة خفض الاستثمارات في مجالي النفط والغاز في الفترة من 2015 – 2020 بسبب تدني الأسعار في تلك الفترة.
رغم التراجع الذي حدث في أسعار النفط بعد ظهور متحور أوميكرون، إلا أن تراجع الإنتاج والحاجة للبترول أثناء الإغلاق في بداية الجائحة، صرف الحكومات عن إجراء عمليات الصيانة بحقول الإنتاج في مقابل أولويات أخرى، مما كان له الأثر السيء أثناء انتعاش الطلب لاحقًا على النفط والغاز.
اعتمدت الدول الصناعية الكبرى لسنواتٍ متلاحقة على الطاقة الرخيصة، وبالتالي حين يتعطل الإنتاج الصناعي بسبب نقص إمدادات الطاقة في الدول الصناعية الكبرى، فذلك حتمًا سيدفع نحو تضخم كبير في أسعار الأسمدة والزجاج والورق والألمنيوم والصلب والهواتف الذكية والسيارات وكافة السلع. ولاسيما إذا وضعنا في الاعتبار السياسة الروسية في ملف إمدادات الغاز الطبيعي لأوروبا، حيث وجدها الدب الروسي فرصة ذهبية لاستخدام الغاز كورقة ضغط “جيوسياسية” بعد تحويل حصة كبيرة من صادرات الغاز للأسواق الآسيوية بدل الأوروبية سابقًا، طمعًا في جني مكاسب متعددة من هذا الضغط، وتعويض سنوات الأسعار الزهيدة، وهو ما يحدث بالفعل.
كابوس التغير المناخي تسبب في زيادة الأمطار الموسمية بالصين والهند، نتج عنه إغلاق الكثير من مناجم الفحم، حتى الطاقة النظيفة لم تنجُ من زيارة الضيف الثقيل فهي الأخرى تعاني، فتوقف الأمطار وحدوث الجفاف في العديد من المناطق أدى لخفض توليد الكهرباء من الطاقة الكهرومائية، إضافة إلى ذلك، فإن ارتفاع درجات الحرارة قلل من توفر الرياح، وبالتالي تضررت الدول المعتمدة على طاقة الرياح مثل ألمانيا، وزادت الحاجة للمصادر التقليدية للطاقة.
أما مصنع العالم الرئيسي “الصين” فوقعت بين مطرقة التغير المناخي وسندان استراتيجية الحرب ضد الاحتباس الحراري، حيث كانت الصين بدأت بالفعل في خفض الاعتماد على الفحم لتوليد الطاقة من 80 % لـ 50%، متزامنًا مع زيادة الاعتماد على الطاقة الشمسية والكهرومائية.
لكن مع زيادة الطلب بشكل كبير، وزيادة فجوة الطاقة بعد وقف استيراد الفحم وخفض إنتاجه وزيادة أسعار الطاقة، وتقييد الحكومة الصينية للمقاطعات في استهلاك الكهرباء والطاقة، أدى ذلك لانقطاعات مستمرة ومتتالية بالكهرباء وتوقفت العديد من الأنشطة الصناعية والإنتاجية لعدم كفاية مصادر الطاقة للوفاء باحتياجات الطلب العالمي المتزايد، فلجأت بعض المصانع لشراء مولدات طاقة أو العودة للفحم، والذي بطبيعة الحال تضاعف سعره 3 مرات.
حينما تتعطل الصين عن الإنتاج فإن اضطرابًا كبيرًا يحدث لا محالة في سلاسل الإمداد والتوريد، وتتأثر إنتاجية العديد من الشركات الكبرى، لكن مع سياسة الإغلاق في تايوان ودول جنوب شرق آسيا بسبب تفشي الكورونا، تصاعدت أزمة أشباه الموصلات والرقائق الإلكترونية، مما سبب أزمة بقطاع السيارات لمصانع فولكس فاجن وأودي الألمانية و تويوتا اليابانية، وعملاق الهواتف الذكية أبل، ولحقت بهم صناعة الأجهزة المنزلية.
التغير المناخي وتوابعه من أزمات الطاقة والغذاء، يدقون نواقيس الخطر بشدة، ويذكرون المجتمع الدولي المتغافل، بضرورة الإسراع في بناء نظام جديد ومستدام للطاقة النظيفة بعيدًا عن إدمان النفط، فخفض انبعاثات الكربون، والحفاظ على المساحات الخضراء والاستثمارات الزراعية أصبح مسارًا حتميًا لمنع مجاعات سنراها رأي العين في المستقبل.