محمد شهاب يكتب | سرقة العمر

0

يخطئ الذين يظنون أن السرقات تتوقف عند نقل الأشياء المادية الملموسة من صاحبها إلى سارقها؛ كسرقات الذهب والمتاع من جواهر وأجهزة وأخشاب وحتى أراضي، ولكن أحيانا ما يتم ضياع أشياء غالية علينا ونصبح وقتها في قمة التعاسة والحزن عليها رغم أن معظم هذه الأشياء يمكن تعويضها.

إن أهم ما يتم سرقته أمام أعيننا وبإرادتنا ونحن غافلون عنه ولا يمكن تعويضه أو استبداله وهو الوقت، وقد جاءت الحضارة الحديثة بمخترعات عديدة والهدف منها توفير المجهود البشري الكبير مما يوفر لنا وقتا نستخدمه في أعمال أخرى، لكن مجتمعنا العربي بدلا من الاستفادة منها حولها إلى ساحة لضياع العمر، فلم نعد نقول الجملة الشهيرة التي وردت في الأفلام القديمة “امسك حرامي”، لكن في هذا الوضع علينا أن نقول “سيب حرامي” لأنك كلما أمسكت به سرق منك أجمل الأشياء وأكثرها قيمة، ولأنه لص ذكي جدا فقد أطلقوا عليه “التليفون الذكي”، نعم؛ إنه ذلك الجهاز الذي تمسك به طوال الوقت فيكون سببا في ضياع العمر دون أن تشعر.

كثيرًا ما نري أسرة جميلة يجتمع أفرادها مع بعضهم البعض ظاهريا، ولكن في الواقع نجد أن كل واحد منهم أمام شاشته يتحدث مع أشخاص افتراضيين، تعرف عليهم من خلال مواقع التواصل الاجتماعي؛ والتي أرى أن يتم تغير اسمها إلى مواقع التفكك الأسري، والكلام يطول عن آثارها السلبية.

لكن دعونا نعود إلي اللص الذكي، لنرجع إلى الوراء قبل وجود هذه التكنولوجيا؛ فعلي سبيل المثال كنا في الأعياد نتبادل الزيارات مع الأقارب والأصدقاء ونجلس معهم ونتحدث إليهم عن الأيام الجميلة التي عشناها وعن أحلامنا وآمالنا التي نريد أن نحققها في المستقبل، ويستشير كل منا الآخر في قضاياه ومشكلاته.

ترى ماذا حدث لكل منهم ومن يتواجد في مكان بعيد يتم الحديث إليه عبر التليفون، فقد كانت الأسرة تجتمع فردا فردا، وكل ينصت للآخرين، فيستمع النصيحة ممن هو أكبر منه، ويستمع شكوى أخيه الأصغر، ويراعي طاعة والده ووالدته، فكانت المشاعر أكثر قربًا، والأفكار أكثر توحدًا، والأسرة أكثر انسجامًا.

كما يجتمع الأقارب والجيران فيستمع بعضهم بعضا من حكايات مؤلمة يتألم الجميع لها ويشاركونهم الألم، أو يستمع الصديق لصديقه في فكاهة نادرة أو طرفة جديدة فيتضاحكان ملء الفم وربما تدمع العين، وتبدو على الوجوه آثار السرور كأنها ضوء الصبح.

أما اليوم يتم إرسال رسائل إلى الجميع في لحظة واحدة فقط، وربما تكون هي ذات الرسالة يرسلها الإنسان إلى أخ وقريب وصديق، دون التفرقة في درجات المحبة أو رتبة القرابة، فلم يعد هناك تقارب بين الناس، وما عاد الحديث وجها لوجه.

ناهيك عما يحدثه من انتهاك الخصوصية، فتجد أحدهم يتصل بك في أي وقت وأي مكان، فإن لم تستطع الرد، يتوالى عليك اللوم وكأنك ارتكبت جرما كبيرا، بالإضافة إلى ما نسمع به من أخطار ما يسمون (بالهاكر)، حيث يستطيعون اختراق جهازك المحمول، والتجسس عليك، وهذا كله بسبب سوء الاستخدام.

لست أدعو هنا إلى ترك التكنولوجيا الحديثة، ولكن ما أعنيه هو ترشيد الاستخدام فقط لأن الإفراط في استخدام أي شيء تكون عواقبه وخيمة، علينا أن نحاول العودة إلى جزء بسيط من الزمن الجميل، قبل أن يمر العمر سريعا مع هذا اللص الذكي.

* محمد شهاب، المتحدث الإعلامي لحزب الجيل الديمقراطي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.