محمد طه يكتب | المحليات وملامح الدولة
في كل دولة هناك مؤسسات تُثار حولها النقاشات، وسياسات تُراجع، وخطط تُعلن. لكن في مصر
تحديدًا، تظل المحليات هي النافذة الأكثر صدقًا على شكل الدولة الحقيقي. المواطن لا يرى الدولة
من القوانين ولا من البيانات الرسمية، بل يراها من نافذته حين ينظر إلى الشارع أمام بيته، ومن الحي
الذي يتعامل معه يوميًا، ومن الموظف الذي يقف أمامه ليقضي مصلحته. هناك، في هذا الاحتكاك
المباشر، يتكوّن الانطباع، وتُبنى الثقة، أو تُهدم.
حين يصبح الموظف المحلي هو صوت الدولة ووجهها
في وحداتنا المحلية، يقف موظف بسيط لكنه يحمل على كتفيه ثقلًا أكبر مما يُتوقع. لا يملك رفاهية
“نقل الشكوى” أو “رفع الطلب” فقط، بل يملك قدرة على تهدئة غضب مواطن أو إعادته إلى بيته وهو
راضٍ. هذا الموظف قد لا يعرف مصطلحات التنمية المستدامة، لكنه يعرف أن تأخير ورقة لمواطن
واحد يمكن أن يصنع أزمة. يعرف أن توقيعًا ناقصًا قد يعني يومًا كاملًا ضائعًا. وهؤلاء الجنود
المجهولون—برغم كل الصعوبات—يصنعون خدمات يومية تمنع مشكلات كبيرة قبل أن تصل
لمستويات أعلى.
المشكلة ليست في الفكرة… بل في الأدوات
لدينا في مصر منظومة قوانين جيدة، وتصوّر واضح لدور المحليات، وإرادة سياسية داعمة للتطوير.
ولكن التحدي الحقيقي ليس في النصوص، بل في الأدوات. فالمحليات حتى الآن تعمل في كثير من
المواقع بمنطق الدفاتر الورقية لا بمنطق تحليل البيانات. تتعامل مع المشكلات بالحلول التقليدية لا
بالأنظمة الذكية. وتعتمد على الاجتهاد الفردي أكثر مما تعتمد على نظام مؤسسي متكامل. ولا يمكن
لأي مؤسسة—مهما كانت نواياها صادقة—أن تنجح بدون أدوات حديثة، وتدريب مستمر، ونماذج
واضحة للقياس والمتابعة.
جيل جديد يتقدّم الخطوط… ويحاول أن يصنع الفرق
داخل مكاتب المحليات اليوم، بدأ يظهر جيل مختلف تمامًا. شباب يحمل شهادات، وعيًا، وطموحًا،
ويعرف معنى كلمة “تحول رقمي” قبل أن تصبح شعارًا. هؤلاء لا يدخلون المكاتب ليكرروا الأساليب
القديمة؛ بل يدخلون بعقلية جديدة: لماذا لا نرفع الخدمات إلكترونيًا؟ لماذا لا نُعدّ أرشيفًا رقميًا
يعالج فوضى الأوراق؟ لماذا لا نقيس رضا المواطن بشفافية؟ لماذا لا نُعلن بيانات الأداء الأسبوعية
على الملأ؟ هذا الجيل يريد أن يصنع إدارة عصرية، ويرى أن نجاح الدولة يبدأ من نجاح الوحدة
المحلية.
المواطن… شريك في الحل وليس متلقّيًا للخدمة
لا يمكن الحديث عن تطوير المحليات بمعزل عن دور المواطن. فالموظف قد يصدر القرار، لكن
المواطن هو الذي يدعم التنفيذ أو يعطّله. وإذا أردنا محليات قوية فعلًا، فعلينا أن نعيد صياغة
العلاقة بين المواطن والحي؛ علاقة تقوم على المشاركة، لا الاتهام. المواطن الذي يبلّغ عن مخالفة
يساهم مثل الموظف الذي يحرّرها. المواطن الذي يحافظ على نظافة الشارع يصنع فارقًا مثل عامل
النظافة الذي ينظفه. والتغيير الحقيقي يبدأ حين يشعر المواطن أن دوره ليس شكليًا، بل أصيل في
منظومة الإصلاح.
المحليات… حيث يبدأ الإصلاح قبل أن يُعلن
في النهاية، قد تُطلق خطط قومية كبرى، وقد تتغير الحكومات، وقد تتبدل السياسات، لكن ما يبقى
في ذاكرة الناس هو ما لامس حياتهم اليومية. وحين نتحدث عن المستقبل، فإن أقصر طريق لإصلاح
الدولة يبدأ من إصلاح المحليات. يبدأ من شارع منضبط، وخدمة محترمة، ومسؤول يرد على شكوى،
وموظف يعرف أنه ليس جزءًا من جهاز إداري فقط، بل جزء من بناء وطن.
المحليات ليست مرتبة إدارية… إنها المكان الذي تُخاض فيه معركة بناء الدولة كل يوم، وبهدوء،
وبجهود لا يراها أحد، لكنها تُحسّ في حياة الجميع