تمر الأمم والقادة بمحن وصعوبات تختبر صبرهم وثباتهم، ومن أعظم هذه النماذج في الصبر واليقين هو سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، الذي مر بعام الحزن، حيث فقد جبهته الخارجية، عمّه أبو طالب الذي كان حصنًا منيعًا يدافع عنه أمام أذى قريش، وفقد جبهته الداخلية، زوجته السيدة خديجة رضي الله عنها، التي كانت السند النفسي والداعم الأول لدعوته.
وبعد هذا الابتلاء الكبير، ذهب النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهل الطائف يبحث عن نصرة ودعم لدعوته، ولكنهم لم يكتفوا برفضه بل أذاقوه ألوانًا من الأذى والاستهزاء، حتى طردوه وأرسلوا وراءه الصبيان ليرموه بالحجارة.
وفي تلك اللحظات العصيبة، لجأ النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله بدعاء مليء بالخضوع والتضرع، قال فيه: «اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين وأنت ربي، إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك». وكانت هذه الكلمات تخرج من فمه صلى الله عليه وسلم بعين مدوية، صوت مليء بالحزن والضعف، ولكن في نفس الوقت مليء باليقين والإيمان الكامل بقدرة الله تعالى.
في تلك اللحظة، استجاب الله لدعائه، فأرسل إليه جبريل عليه السلام، ومعه ملك الجبال، ليعرض عليه الملك عرضًا عظيمًا، فقال ملك الجبال: «يا محمد، إن شئت أن أطبق عليهم الجبال، فإنهم لم يرحموك».لكن النبي صلى الله عليه وسلم، في عظمتها وتسامحها، رفض هذا العرض، وقال: «بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ولا يشرك به شيئًا».
وفي تلك اللحظة العصيبة، جاء التكريم الإلهي العظيم برسالة السماء عبر الإسراء والمعراج. في رحلة الإسراء والمعراج، حيث أُسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عُرج به إلى السماوات العلى، كان في كل مرحلة من الرحلة ما يخفف عن قلبه ويزيده قوة. وفي صعوده إلى السماء، بدا وكأن الله سبحانه وتعالى يقول له: “يا محمد، لو ضاقت عليك الأرض بما رحبت، لأتسعت لك السماء بما حوت”.
وهنا أقول قول أمير الشعراء أحمد شوقي:
أسرى بك الله ليلا إذ ملائكه
والرسل في المسجد الأقصى على قدمِ
لما خطوت به التفوا حولك
كالشهب بالبدر أو كالجند بالعلمِ
صلى وراءك منهم كل الذي خطر
ومن يفز برسول الله يغتنمِ
صعدت سماءا لا يطار لها على جناح
ولا يسعى لها على قدمِ
وقد قيل كل نبي عند رتبته
ويا محمد هذا العرش فاستلمِ
وفي تلك اللحظات العظيمة، طلب النبي صلى الله عليه وسلم من ربه الرؤية. ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطلب الرؤية كما فعل موسى عليه السلام حين قال: “رب أرني أنظر إليك”، فرد الله عليه في القرآن الكريم: “لن تراني”، فكان موسى عليه السلام عندما سمع هذا الرد خر مغشيًا عليه، فاحتاج إلى معجزة لتفريج قلبه. أما النبي صلى الله عليه وسلم، فقد كانت رؤيته لربه في المعراج أمرًا بعيدًا عن ما قد يطلبه البشر. وقد فقه في قوله تعالى: “لن تراني”، فكان صلى الله عليه وسلم في تلك اللحظة يقينًا راسخًا، لم تكذب فؤاده ولا ازاغ ذهنه عن مراد الله.
وهنا يقول الشاعر:
فلو قارنت لفظة لن تراني
بما كذب الفؤاد فقهت قولا
فموسى خر مغشيا عليه
وأحمد لم يكد ليزيغ ذهنا.
وفي كل لحظة، كان النبي صلى الله عليه وسلم يكتسب قوة إيمانية ويشعر بالقرب من الله عز وجل. كان ما رآه في السماوات من مشاهد الجنة والنار وآيات الله الكبرى، من أعظم ما تلقاه أي إنسان، مما أزاح عن قلبه ما كان فيه من هموم.
في تلك اللحظات من المعراج، تلقى النبي صلى الله عليه وسلم فريضة الصلاة، التي ستكون صلة بين العبد وربه، وراحة وسكينة للأمة كلها. كانت الصلاة بمثابة الإجابة على دعائه وتخفيف لآلامه، وتأكيدًا من الله تعالى أن كل محنة لها نهاية، وأن الفرج يأتي من عنده بعد الصبر واليقين.
رحلة الإسراء والمعراج كانت أكثر من مجرد حدث تاريخي عظيم؛ كانت رسالةً إلهية للنبي صلى الله عليه وسلم، أن الله لا يترك عباده المؤمنين، وأن تكريمه ومحبته فوق كل الظروف. كما كانت تأكيدًا على أهمية الصبر والثبات في مواجهة الشدائد، وأن العاقبة دائمًا للمتقين.
رحلة الإسراء والمعراج تظل درسًا مستمرًا لنا، تعلمنا أن المحن قد تكون مقدمة لمنح عظيمة، وأن اليقين بالله والثبات على الحق هما الطريق إلى الفرج والتمكين