محمد عمارة تقي الدين يكتب | التسامح الديني كضرورة حتمية (٢ – ٢)

0

رأى جون لوك أن قضية التسامح الديني، هي القضية الأخطر التي واجهت المجتمعات الأوروبية في عصره،وأنه ليس من مخرج من دون حسم تلك القضية وإقرار التسامح الديني كأطروحة مركزية تتأسس عليها الحضارة الحديثة، إذ شهدت أوروبا حروبًا دينية غاية في القسوة والعنف، كحرب الثلاثين عامًا التي عاصرها لوك بين الكاثوليك والبروتستانت في ألمانيا، يقول لوك:”لا يجوز استبعاد وثني أو مسلم أو يهودي من الدولة بسبب دينه، إن الإنجيل لا يأمر بشيء كهذا”.
ومن ثم أعلنها لوك حربًا شعواء على نزعة الاضطهاد الديني التي استشرت في أوروبا مؤكدًا أنها ليست من المسيحية الحقة في شيء، يقول لوك:”الذين يضطهدون الآخرين باسم المسيح إنما هم في حقيقة الأمر يتنكرون لتعاليم المسيح … الإكراه هو رذيلة ضد تعاليم المسيح ويجب محاربتها”، ويضيف:”إذا ضل أحدهم فلن يصيبك أدنى ضرر من ضلاله لذلك لا يجوز لك معاقبته بقسوة بسبب أنك تعتقد أنه سيعاني في الآخرة”.
لقد باتت الحاجة مُلِحّة، وكما يذهب البعض، إلى الغوص في مستويات التحليل الأكثر عمقاً من أجل دراسة وتمعن الأسباب الحقيقية وراء سيادة الأنماط الدينية المتشددة التي أقصت الإنسان جبراً عن الفعل التاريخي ومن ثم حرمته من صناعة مصيره الأرضي بكلتا يديه، وألقت به في غياهب العدمية، أو حولته لآلة قتل ودمار ضد المُختلف معه أيديولوجياً.
وعليه فلا مفر من إعادة قراءة النصوص الدينية بشكل أكثر مقاصدية وأكثر إنسانية باعتبار أن غاية الله من الإنسان هي عبادته وتحقيق سعادته وطمأنينته واستخلافه على هذا الكوكب، وهي قراءة من شأنها أن تستلهم القيم الإنسانية الرائعة داخل النسق الديني ومن ثم إعادة ضخها في عالم الواقع.
حقيقةً أن البعد الأخلاقي هو بعد كامن في حنايا وتضاعيف النفس البشرية بشكل عميق مُجسدًا حالة من الاستعصاء على الاختفاء والخفوت أو التلاشي والانزواء، وإن لم يعبر عن نفسه في شكل ممارسات واقعية نجده حتمًا يتبدى على الإنسان في صورة مرضية، ولعل ذلك ما يفسر الاضطرابات النفسية لدى المجرمين وفاقدي تلك النزعة الإنسانية.
ومن ثم فليكن شعارنا:”دعنا نزاول إنسانيتنا في حدها الأقصى”، أو أن نسعى لتحقيق “لحظات الإنسانية القصوى” باعتبارها هي ذاتها لحظات القرب من الله، فهي إذن واحدة من مقاصد الأديان العليا، وهي ذاتها:”لحظات الوجود القصوى” التي نادت بها الفلسفة الوجودية في صيغتها الإيمانية، أي أن ندور مع الإنسانية حيث دارت ولنتحمل بعضًا من الأعباء الأخلاقية باعتبارنا بشر.
إن إحياء القيم الإنسانية في الأديان وإعادة نثرها فوق هذا العالم هو ضرورة مُلِّحة للبشرية جمعاء في ظل سيطرة منطق القوة على النظام العالمي القائم وغياب العدالة عنه وكأن العالم دولة واحدة يحكمها نظام استبدادي البقاء فيه للأقوى ماديًا وليس الأصلح قيميًا وأخلاقيًا، ووجود بعض الكانتونات الإنسانية داخله لا يمكنها تجاوز أو خرق هذا النسق، وهو ما جرّها إلى الواقع الكارثي الذي تحياه اليوم، ومن ثم فعلى البشرية في لحظتها الراهنة أن تدفع نحو تأسيس نظام عالمي جديد أكثر تراحمية وأكثر ديمقراطية وعدالة، وهو نظام من شأنه أن تتلاشى داخله كل هذه النزاعات الدولية وينحسر العنف إلى أقصى درجة.
ومن دون شك فالأديان بما تحويه من قيم إنسانية أخلاقية تراحمية يمكنها أن تمد هذا النظام الجديد الذي نتغياه بما افتقده النظام العالمي الحالي في هذا الجانب، ومن ناحية أخرى ففي ظل هذا المناخ غير المأزوم الذي نأمله نعتقد أنه من الممكن بناء رؤى وأطروحات دينية ذات نزعة إنسانية أخلاقية من شأنها الوقوف بوجه الأطروحات المتشددة والعنيفة واللإنسانية للنصوص، وهي الأطروحات التي انبثقت عن واقع كانت سمته الأساسية الجهل والظلم والقهر ومن ثم جاءت انعكاسًا له.
كما أنه علينا أن ندرك أننا لسنا بحاجة لمجرد إحياء القيم الإنسانية في الأديان بل العمل على توليد نسق إنساني متكامل من داخل نصوصها لتنضبط بها حركة الحياة، نسق يمكن أن ينسحب علي كل الأديان عبر تأكيد المشترك بينها من قيم التسامح والتراحم والعدالة والأخوة الإنسانية ومن ثم بناءها وتحققها وممارستها الفعلية في الواقع.
فالأمر إذن يتطلب ثورة فكرية كبرى، أي صناعة ثقيلة للعقل الإنساني تأخذ على عاتقها إنجاز تلك الغاية السامية.
يقول الفيلسوف الوجودي مارتين هايدجر:”لن ينقذنا إلا إله جديد”، ونحن نقول لن ينقذنا إلا تصور جديد للأديان وقراءة مغايرة لها، قراءة ترتكز على النزعة الإنسانية والتراحمية الكامنة بها.
ومن دون شك فقيم التسامح والأخوة الإنسانية القابعة داخل نسق الأديان يمكن أن تفي بهذا الغرض، وهي القيم المُتسِمة بالوفرة ليس في الأديان السماوية فحسب، بل وحتى في غير السماوية منها.
ومن ناحية أخرى ولتأكيد قيم التسامح الإنساني يجب أن نُقّر بحقيقة وجود الاختلاف والتنوع في الفكر والعقائد، وأن محاولة تنميط العالم وحشده وراء فكرة أو أيديولوجية دينية بعينها هي دعوة محكومة بالفشل إذ تحمل في طياتها إقصاءً بل وعداءً للآخرين سرعان ما ستتحول لعنف مفرط ضدهم.

وفي التحليل الأخير علينا أن نُهيئ العقل البشري لهذا البديل المستقبلي ذو النزعة القيمية التراحمية الذي نتغياه ونحثه على الدفع نحوه باعتباره، في اعتقادنا واعتقاد كثيرين غيرنا، هو الحل الوحيد لإنقاذ البشرية من مصير كارثي مُحدق تتجه إليه بقوة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.