محمد فؤاد البري | القناة بين تجارب الماضي وأخطار الحاضر (2_2)

0

يتعلق الخطر الثاني بخطوط الأنابيب العملاقة، التي تعبر في مسارات برية، حيث تتجه العديد من الدول نحو إنشاء هذه الخطوط، ودفع رسوم بسيطة للدول التي يمر عبرها خط الأنابيب، خاصة فيما يتعلق بنقل الغاز الطبيعي. توفر خطوط الأنابيب، تكاليف النقل عبر الناقلات البحرية، بما في ذلك تكاليف النفط والتشغيل والرسوم الخاصة بالموانئ والقنوات والمضايق الملاحية، وكذلك أجور طواقم الحاويات. لهذا، يتعين على قناة السويس أن تجدد دورها، وتوفر بدائل لعملائها. وينبغي لمصر، منذ الآن، أن تمتلك أسطولًا كفؤًا وقويًا من السفن والناقلات، خاصة المتوسطة والصغيرة، لاستخدامها في نقل البترول والبضائع بين الشرق والغرب عبر القناة.
من المخزي، أن تتفوق سنغافورة على مصر في هذا المجال، على الرغم من أن موقعها متطرف، بينما تمتلك مصر موقعًا استراتيجيًا في قلب العالم. عند مقارنة ميناء بورسعيد وميناء سنغافورة، لا نجد مجالًا للمقارنة، حيث يحقق ميناء سنغافورة دخلًا يزيد على 21 مليار دولار سنويًا من عائدات الخدمات اللوجستية فقط. يمر عبر الميناء خُمس حاويات الشحن العالمية، ويتبادل البضائع مع 600 ميناء في 123 دولة، كما يقوم بدور الترانزيت من خلال تزويد السفن المارة بالوقود والخدمات اللازمة.
من غير المعقول، أن لا تمتلك مصر، صاحبة قناة السويس، أسطولًا من الناقلات لنقل البضائع، ودعم القناة، بينما تمتلك العديد من الدول البحرية المتقدمة، وحتى المتخلفة أساطيل كبيرة تعتمد على قناة السويس. لا يجب أن تظل مصر مجرد ممر؛ بل يجب أن تتحول إلى دولة ناقلات ومركز لوجستي على جانبي القناة، لتفادي “أسر النقل”، كما كان في العصور الوسطى، وكذلك لمواجهة مشاريع إسرائيل والصين، التي قد تؤثر سلبًا على القناة إذا توقفت مصر عن التطوير.
في مصر، هناك ثلاث جامعات حكومية كبيرة بالقرب من مدن القناة، وهي جامعة قناة السويس في الإسماعيلية، وجامعة بورسعيد، وجامعة السويس. ومع ذلك، لم يتم استغلال هذه الجامعات في خدمة القناة، إذ تستمر هذه الجامعات في تقديم تخصصات تقليدية مكتظة في سوق العمل، مثل الآداب، والحقوق، والتجارة، والتربية، بدلاً من تطوير برامج، تُسهم في التنمية وخدمة القناة.
يؤكد الخبراء أنه إذا استُغلت منطقة القناة بشكل جيد، يمكن أن تستوعب 4 ملايين عامل في مشاريع، مثل: تحلية المياه، واستصلاح الأراضي، والاستزراع السمكي. يجب على وزير التعليم العالي والبحث العلمي، إعادة النظر في البرامج المقدمة في تلك الجامعات، لتعمل على خدمة القناة، ولو استعان في البداية بخبراء أجانب، لدراسة علوم النقل البحري والملاحة والخدمات اللوجستية وصناعة الناقلات. ينبغي أن تكون هذه الجامعات مختصة في علوم البحار والنقل البحري، وتوفر كليات تطبيقية ومعاهد فنية تؤهل الخريجين لهذا المجال، كما في جامعة بنما التكنولوجية.
نجحت القيادة السياسية في مصر في لفت الانتباه إلى منطقة قناة السويس من جديد، وكانت خطوة إنشاء منطقة صناعية وتجارية متكاملة في محور قناة السويس بالتعاون مع دول البريكس أولى ثمار هذا التحول. هذه المنطقة ستكون رأس الحربة في مشروع “طريق الحرير” الصيني الجديد، وتضاهي في قوتها وتأثيرها مدينة هونغ كونغ.
أما الأمر الثالث الذي يهدد عدد السفن المارة بالقناة، فهو النفوذ التجاري في منطقة الخليج العربي واحتياطي البترول المؤكد فيها.
من مصلحة القناة، أن يكون التبادل التجاري بين دول جنوب وغرب أوروبا الصناعية ودول الخليج العربي النفطية أكبر من التبادل التجاري بين دول الخليج ودول الشرق الأقصى، مثل الصين واليابان وكوريا الجنوبية والهند ودول النمور الآسيوية. هذه الدول نمت صناعيًا بشكل كبير، وزاد التبادل التجاري بينها وبين دول الخليج، خاصة فيما يتعلق باستيراد النفط، إلا أن هذا التبادل لا يعتمد على قناة السويس، بل يستخدم مضيق هرمز مباشرة للوصول إلى المحيط الهندي. بينما يوفر طريق قناة السويس لدول أوروبا نصف المسافة أو أكثر، مقارنةً بطريق الدوران حول أفريقيا المعروف بطريق الرأس.
أما مشروع “الحزام والطريق”، الذي تحاول الصين تدشينه، فهو يمثل تهديدًا نسبيًا لحجم التجارة العالمية المارة في القناة، حيث يسعى إلى ربط دول أوروبا بقارة آسيا عبر إنشاء أطول خط سكة حديد، ما قد يحول جزءًا من التجارة العالمية من النقل البحري إلى النقل البري باستخدام القطارات السريعة.
الخطر الرابع، الذي يواجه القناة هو عدم استقرار منطقة باب المندب، وهي منطقة متوترة بسبب الحوثيين في اليمن والمشكلات الأمنية في منطقة القرن الأفريقي. تؤثر التوترات السياسية في باب المندب بشكل كبير على تذبذب إيرادات قناة السويس. ومؤخرًا، انخفضت إيرادات رسوم المرور بمعدل 24.3%، مسجلة 6.6 مليار دولار خلال العام المالي 2023-2024، وفقًا لبيانات البنك المركزي المصري. وتسعى مصر جاهدة لتهدئة الأوضاع في منطقة القرن الأفريقي، حيث تُعد أكبر دولة أفريقية مرسلة لقوات حفظ الأمن والسلام هناك. كما وقعت مصر اتفاقية دفاع مشترك مع الصومال، لمواجهة الأطماع الإثيوبية التي تسعى لوضع قدم لها على ساحل البحر الأحمر.
من الجدير بالذكر أن قناة السويس، تأسست قبل اكتشاف البترول، وكانت تُعتبر شريانًا استراتيجيًا لبريطانيا، إذ كانت طريقًا إلى الهند، أهم مستعمرات الإنجليز في القرن التاسع عشر. ومع اكتشاف البترول في الشرق الأوسط، أصبحت القناة طريقًا للخليج. لكن السؤال هو: ما الذي ينتظر القناة في المستقبل؟
قد ينتهي الاحتياطي المؤكد من النفط في الخليج العربي بعد فترة زمنية محددة، وقد تتطور التكنولوجيا، وتعتمد على مصادر طاقة بديلة في المستقبل القريب، مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح. لكن، بغض النظر عن ذلك، تبقى قناة السويس موقعًا استراتيجيًا خالدًا لا يمكن تجاهله أو إهماله، سواء بوجود البترول أو دونه. فمنذ صنعت مصر التاريخ، بقيت جزءًا أساسيًا فيه، وستظل كذلك.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.