محمد فؤاد البري يكتب | إعادة النظر في دراسة التاريخ

0

لكل بلد تاريخه الوطني، ولكن للإنسانية تاريخ مشترك. والتاريخ الذي يُدرس للتلاميذ في معظم بلاد العالم، هو بعيد كل البعد عن المعنى الحقيقي لمقاييس العلم، والتي تتسم بالموضوعية والاستقلالية وعدم التناقض، ولكن قد نقول إن ما يدرس في المدارس، هو أقرب لمادة التربية الوطنية منه لعلم التاريخ من أجل غرز مبادئ معينة في نفوس الطلاب، تدعم مفاهيم كالوحدة الوطنية، والهوية، والانتماء، أو أهداف سياسية محددة.
ولكن قد تؤدي أحيانا إلى نتائج عكسية من الناحية التربوية، حيث ينمو التعصب واللا تسامح الديني والعنصرية مع الصغار في بعض الدول، خاصة التي تكتب التاريخ من وجهة نظر دينية أو مذهبية.
نحن نتوهم أن هذه الدراسات، تتبع “علم التاريخ”، ولكنها في الحقيقة تندرج تحت بند أهواء وعاطفة الشعوب، وعلى العلم هنا، أن يتدخل، ليفصل بين ما هو مزيف، وما هو حقيقي.
لكن ترسيخ الكراهية والتعصب في نفوس الصغار عند تلقيهم مادة التاريخ في المدارس، لا يعتبر تعليما للتاريخ إنما توريث معتقدات لا أكثر، وعلى الخبراء الاهتمام بنواتج التعلم ومناقشة الأفكار واستخلاص العبر بدلا من التوسع في شرح الأحداث المتكررة، وتقديس الشخصيات الأسطورية. واقترح هنا، أن يجتمع خبراء طرق التدريس في العالم، لوضع منهج محدد علميا وموضوعيا، لا تتعارض فيه الثوابت الوطنية لكل دولة مع التاريخ الإنساني بشكل عام، وهنا لابد من إعادة النظر لاحترام ثقافة الغير، واحترام مبدأ الاختلاف بين الأمم والشعوب باعتباره سنة كونية.
لقد انعقد مؤتمر دولي للمدرسين سنة 1988 في طوكيو، وانتهى المؤتمر إلى حكمة، تقول: ” إننا لو درسنا في كل مدارس العالم كتابا واحدا للتاريخ، لما قامت الحروب! وهذا صحيح إلى حد بعيد”.
إن كل دولة تدرس لتلاميذ مدارسها تاريخا، ينظر إلى الدنيا من وجهة نظر واحدة.. تاريخا يثبت للتلاميذ أن بلادهم أعظم البلاد، وأنها على صواب دائما، وأن ما عداها من البلاد لا تساوي شيئا!.
فالتلميذ الهندي مثلا يدرس، أن الإنجليز احتلوا بلاده وأخروها واضهدوها.. في حين أن التلميذ الإنجليزي يعلمونه أن إنجلترا، كانت في الهند لمجرد تمدين شعب الهند وترقيته، وأن الدماء التي أريقت في الهند، كانت في سبيل نشر الحضارة.
والتلاميذ في الصين يدرسون أن الحضارة الصينية القديمة، هي أولى الحضارات في حين التاريخ القديم في العراق، يرى غير ذلك، فالعراق أول حضارة على سطح الأرض من وجهة نظر العراقيين، بينما التلميذ المصري، لا يرى إلا الحضارة المصرية القديمة، كونها أولى الحضارات!! نريد أن يحكم التاريخ في كثير من الأمور، ويقول كلمة واحدة، وليس وجهات نظر متعددة.. أو ربما نأمل أن يكون هناك تاريخ عالمي، مثلما أصبح هناك قانون دولي، يحكم عند الخلاف على الحقيقة.
وعلى المؤرخ أن يتساءل:
أي فائدة، يمكن أن نجنيها من هذا الكم الهائل من الروايات للأحداث التاريخية في مختلف العصور؟ وكيف يمكن لأمة من الأمم أن تستفيد من هذا التراكم للأحداث، التي عاشتها، وتعيشها دون أن يمتلك أبناء هذه الأمة القدرة على التساؤل عن مغزى هذه الأحداث، وكيف يمكن من خلالها تأمل استشراف ما يمكن أن تقود إليه الأحداث في المستقبل؟
على المؤرخين، أن يعيدوا النظر في كتابة التاريخ، وعلى الخبراء، أن يبتكرون طرق تدريس جديدة عند شرحه، والا سيصبح من العلوم المحنطة في المستقبل القريب.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.