محمد فؤاد البري يكتب | المناخ هو قدر الشعوب

0

عند النظر إلى خريطة العالم، نجد أن الشعوب المتقدمة، تتركز في مقدمة الأرض، فيما يعرف بـ”دول العالم الأول”، وتنتشر في الشمال في خط متصل من اليابان شرقًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية غربًا. وعلى الرغم من الاختلافات والتناقضات الكبيرة بين دول الشمال من حيث الدين، واللغة، والزمن، والثقافة، والتاريخ، والأنثروبولوجيا، فإن هناك شيئًا طبيعيًا مشتركًا، يجمع بينها، وهو “المناخ”. إذ تتمايل الشمس بهدوء على سكان دول الشمال، ما جعلها ضمن نطاق العروض المناخية المعتدلة، والمعتدلة الباردة، مع إحاطة الجليد بالأطراف الشمالية لتلك الدول، فكان بمثابة “فريزر” يلطّف تغيرات المناخ الفجائية، التي تحدث عندما ترتفع درجات الحرارة عن المعدل الطبيعي.
في المقابل، تقع معظم الشعوب النامية، فيما يعرف بـ”دول العالم الثالث”، بين المدارين، حيث يسود المناخ المداري الجاف والمناخ الاستوائي المطير. فالمناخ المداري الجاف، أدى إلى نشوء الصحاري الشاسعة في وسط وغرب آسيا وأفريقيا جنوب الصحراء، بينما نتج عن المناخ الاستوائي المطير المستنقعات والغابات الكثيفة في وسط أفريقيا وشمال أمريكا الجنوبية وجنوب آسيا.
التنمية في دول الشمال، أسهل بكثير من التنمية في الدول المدارية والاستوائية، التي تتطلب مجهودًا بشريًا ضخمًا لمواجهة تحديات الطبيعة الصعبة. فعلى سبيل المثال، لم تواجه فكرة إنشاء سوق أوروبي مشترك صعوبات طبيعية ومناخية كتلك التي تواجه إقامة سوق أفريقي مشترك. حتى تربية الحيوانات في المناخ المعتدل، تنتج أربعة أضعاف الإنتاج في العروض المدارية! ومن جهة أخرى، أثر المناخ على ديموغرافيا الدول؛ فمن المعروف أن المناطق الحارة، تتميز بارتفاع الخصوبة، وبالتالي ارتفاع النمو السكاني، ما يلتهم كل خطط التنمية في تلك البلاد، بينما ما زالت معدلات النمو السكاني في دول الشمال سلبية، وتعتمد على الهجرة النوعية لتعويض نقص التخصصات، معتمدين على الشباب المهاجر المتفوق من الدول النامية. لا أقول إن شعوب الشمال من سلالة أعلى، وإنما مناخ الشمال، هو ما ساعد على الإبداع والابتكار، والدلائل واضحة؛ فعندما يهاجر المصري أو الهندي أو الأفريقي إلى بلاد الشمال، يتفوق ويبدع ويكون مصدر إلهام للكثيرين أكثر من الأوروبي أو الأمريكي.
الحالة المزاجية والنفسية التي خلقها مناخ الشمال، شجعت على خلق بيئة عمل مثالية، لم يوفرها المناخ في الدول المدارية أو الاستوائية ذات الرطوبة العالية. فالشعوب النامية، تعاني مشكلات طبيعية مختلفة كالمناخ الصحراوي، والأمراض البيئية كالملاريا وعمى الأنهار ومرض النوم. ولا عجب أن نجد متوسط العمر المتوقع لحياة الإنسان في دول أفريقيا جنوب الصحراء، يبلغ 49 عامًا فقط، بينما يصل إلى 84 سنة في دول مثل كندا أو اليابان أو ألمانيا!
في دراسة حول مزاج العمال النفسي، لوحظ أن العامل في المناطق الحارة، قد يشعر بالخمول في معظم فترات عمله، على النقيض من مزاج العمال في العروض المعتدلة. ومن دلائل ذلك، أن قارات العالم الجديد، التي اكتشفت واستعمرها الأوروبيون انقسمت إلى دول عالم أول وأخرى نامية. فعلى الرغم من أن المستعمر واحد، فإن اختلاف المناخ كانت له الكلمة العليا في تحديد مستويات التقدم في تلك الدول. وتصدق القاعدة في نصف الكرة الجنوبي، حيث انضمت أستراليا ونيوزيلندا، ذات المناخ المعتدل، إلى دول الشمال المتقدمة، وفقًا لخط براندت العالمي، بينما دخلت أمريكا الوسطى واللاتينية، ذات العروض المدارية الحارة، ضمن دائرة الشعوب المتخلفة.
السؤال الذي يطرح نفسه للمقال القادم: إذا كان المناخ المعتدل سببًا مهمًا في تقدم أوروبا في العصر الحديث، فلماذا لم تتقدم أوروبا في زمن العصور الوسطى “عصور الظلام”؟ ربما يجب أن يتوازن المناخ الطبيعي والسياسي لتحقيق النهضة.
كل حقيقة في عالمنا النسبي هي نصف حقيقة، وإذا كان التاريخ الحديث، يدلنا على أمم ترتفع وأخرى تقف، وأخرى تنحط، فإن إمعان النظر، يدلنا على أن ذلك كله ناشئ عن تفاوت في إرادة تلك الأمم. فالإرادة، لا القدر، هي المهيمنة على العالم. وأقصد هنا إرادة الشعوب، كما فعلت الصين، وتفعل الهند وماليزيا وسنغافورة، وتحاول البرازيل ومصر وجنوب أفريقيا، الخروج من مأزق الدول المتخلفة لكسر قاعدة الارتباط أو لنقل “الاحتكار” بين التقدم والمناخ المعتدل. ولم لا؟ فكل الحضارات بدأت على جانبي أنهار المناخ المداري، سواء في مصر أو العراق أو الصين.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.