محمد فؤاد البري يكتب | ماذا تريد مصر من التعليم؟ (1-2)

0

تغير روح العصر، وأصبح حشد الطلاب في الحجرات المدرسية امراً بائساً خاصة عندما تضع‌
معهم معلم بائس من الحياة بسبب راتبه الضعيف والذي جعله مشغولاً بعمله الخارجي أكثر من‌
عمله المدرسي..
لقد كانت مصر بعد ‌‌ثورة‌52 في حاجة ماسة لتعليم الجميع، فالجميع كان محدود وقتها وكانت‌
مصر متعطشة لتعليم وتثقيف أولادها بعد طرد الأتراك والإنجليز واعدام الطبقية، لكن مصر بعد‌
ثورة ‌25 يناير ‌2011 أصبحت تعاني من كثرة المتعلمين وكثرة المدراس والجامعات وكثرة كل‌
شيء كان نتيجته عكس أرقامه تماماً بطالة وعوز وثقافة هشة وازدحام فظيع. وعندما يصبح‌
كثرة المتعلمين عبئا ثقيلاً على الدولة فهذا مدلول خطير على فاعلية النظام التعليمي القائم..
والسؤال.. ماذا تريد مصر من التعليم؟‌
تريد مصر أمر مختلف هذه المرة نظرة للمستقبل مصر ‌‌في حاجة لفلترة التعليم وليس التضخيم‌
فليس هذا عصر الحشد والتراكم.. فماذا نتصور شكل التعليم وبرامجه بعد عشرة أعوام؟! وفي‌
عصر الذكاء الاصطناعي هل ستكون المدرسة بشكلها الحالي؟

‌‌وتريد أيضاً مواجهة الحقيقة. الحقيقة في كتاب الله: “لا يكلف الله نفساً الا وسعها ” وحقيقة أخرى‌
تتعلق بتربية الأجيال وتلغي كافة محاولات النصح والإرشاد والتلقين المتكرر مفادها ” أنك لا‌
تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء”

ان لم يكن هناك رغبة واستعداد للطفل للتعلم ليس يفيد النصح والإرشاد.. الرغبة ذاتها دفعت‌
كاتباً صغيراً في محل تجاري لم ينل من التعليم الا القليل من دراسة كتب القانون التي عثر‌
عليها مصادفة في برميل النفايات.. انه “ابراهان لينكولن” رئيس الولايات المتحدة الامريكية.‌
كذلك قادت العقاد بالابتدائية فقط أن يكون مفكر عظيم، وقادت طفل كفيف من أقصى الصعيد‌
ليتحدى كل الصعاب ويصبح عميد الأدب العربي.

ان نسق التعليم من المدرسة إلى الجامعة هو مجال دائم للصراع الثقافي، يحتاج عملية نضالية‌
واسعة الأفق حتى نعطي الأجيال القادمة الفرصة في الابداع والتحرر من كل أشكال‌
الدوغمائية التي لا تنتج سوى التخلف..
يصبح التعليم أمر روتينياً بلا فاعلية عندما تصبح شهاداته ليست دليلاً على تحضرك وثقافتك‌
وطريقة تفكيرك، عندما لا يؤثر في منظومة القيم، فالنظام التعليمي تحول لنظام اداري‌
بيروقراطي بحت، قد يعطي امتحانات وشهادات رسمية لكنه لا يعطي مهارات ولا يخلق‌
مبدعين. ونحن إذا قمنا بإلغاء التعليم لمدة عشر سنوات مثلا وغلق المدارس لن نشعر بأي‌
تغيير في ثقافتنا، لا في مستوى اللغة ولا طريقة استماعنا للموسيقي أو تذوقنا للفن وتعبيرنا‌
عن مشاعرنا أو حتى في إدارة اقتصادنا الخ لأننا بالفعل نعاني مع وجود المدارس في كل هذه‌
الأمور فالنتيجة واحدة وهذا دليل كاف ان المليارات التي تنفق سنويا على نظامنا التعليمي لا‌
تؤثر بالشكل المطلوب في تحسين احوالنا بل كل يوم وكل عام تزداد الأمور سوءاً.. وربما‌
استنتج معادلة صادمة بعض الشيء (كلما زاد عدد المدارس كلما قلت الثقافة!) وهذا يمكن‌
ملاحظته على الإنتاج الأدبي والفني في مصر في النصف قرن الأخير.

في حالة توقف الدراسة لفترة من الزمن لمعرفة ماذا نريد كمجتمع من التعليم؟ سيتأثر فقط‌
أصحاب السناتر وتجار الكتب الخارجية وسائقين الأجرة ومخابز العيش الفينو!
التعليم الآن في عصر التقنيات موجود في كل مكان من البيت تستطيع ان تتعلم، ولكن السؤال‌
من يريد أن يتعلم؟ من لديه الاستعداد أن يكتشف نفسه ويثبت لمجتمعه انه موجود ليفكر‌
وينتج ويبدع ويحلل وليس مجرد آلة لتكرار معلومات كما يحدث في معظم المدارس وكل‌
السناتر.
كان (لينز) يقول ان التربية تقدر على تحويل الشعب في مئة سنة، وأن تربية غير ملائمة تفسد‌
مزاج الشعب النفسي في زمن اقل من ذلك.‌‌
فالتوسع في التعليم مثلاً، الذي بدأ قبل الثورة عند مطالبة طه حسين بمجانية التعليم وتلقي دفعة‌
قوية في عهد عبد الناصر، لم تستطع أية حكومة مصرية اشتراكية كانت أم انفتاحيه أـن تقف في‌
وجهه، إذا لم تستطيع اية حكومة في مصر أيا كانت فلسفتها الاقتصادية والاجتماعية ان تصد‌
الضغوط الاجتماعية المطالبة به.
واليوم بعد أن أصبحنا نمتلك أكبر نظام تعليمي في الشرق الأوسط، هل تقدمنا؟
فالحياة لا تعرف هذا التقدم في كل شيء في نفس الوقت بل لابد أن نتوقع أن يكون ثمن التقدم في‌
أمر من الأمور تأخراً في أمر أو أمور أخرى.
تجاوزنا الأمية ولم نتجاوز الجهل.. تجاوزنا ضعف البني التحتية ولم نتجاوز ضعف البنية‌
المعرفية، تجاوزنا البطالة لكن لم نتجاوز بطالة المتعلمين، تجاوزنا العدد لكن لم نتجاوز بعد‌
القيمة …

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.